في مشهد يلخّص حقيقة الصراع بين شعب يناضل من أجل البقاء والحرية، وقوة احتلال تسعى لتجويعه وكسر إرادته، شهد قطاع غزة، فشلاً ذريعًا جديدًا للاحتلال الإسرائيلي في مخطط توزيع المساعدات عبر نقاطه الأمنية، تحت إشراف أمريكي مباشر وتعاون بعض المرتزقة المحليين. الآلاف من أبناء شعبنا الفلسطيني اقتحموا المجمع المخصص لتخزين المساعدات وملكوا ما فيه، في إشارة واضحة إلى عمق أزمة الثقة الشعبية بكل ما يصدر عن الاحتلال، حتى وإن بدا في ظاهره إنسانيًا.
ما جرى في ليس مجرد "فشل لوجستي"، بل انعكاس لحقيقة سياسية وأخلاقية عميقة: الاحتلال لا يمكن أن يكون وسيطًا إنسانيًا، ولا شريكًا في تخفيف المعاناة التي هو سببها الأول والأخير. فالمساعدات التي تُوزع بإشراف قوات الاحتلال لا تهدف إلى الإغاثة، بقدر ما تخدم أجندات سياسية تهدف إلى شرعنة الحصار، وتقسيم الموقف الفلسطيني، وربط الاحتياجات الأساسية بإذعان سياسي مرفوض شعبيًا.
إن المشهد يعيد التأكيد على أن لا بديل عن قيام وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) والمؤسسات الأهلية المحلية والدولية المستقلة بمسؤولية توزيع المساعدات الإنسانية، دون تدخل عسكري أو سياسي. فهذه المؤسسات تمتلك الشرعية الدولية والخبرة الميدانية، وتحظى بثقة الشارع الفلسطيني، وتلتزم بمبادئ الحياد والشفافية، على عكس الاحتلال الذي يحوّل الغذاء إلى أداة حرب، والمساعدات إلى وسيلة ابتزاز سياسي.
ما يحدث في قطاع غزة اليوم لا يمكن وصفه إلا بأنه إبادة جماعية ممنهجة، تدمج بين القصف والحصار والتجويع، وحرمان المدنيين من الماء والكهرباء والدواء وتدمير مقومات الحياة. ومع ذلك، فإن إرادة الحياة لدى شعبنا ما زالت صامدة. اقتحام المجمع في رفح لم يكن فقط من أجل الخبز، بل من أجل الكرامة. إنه إعلان شعبي بأننا لن نُدفن أحياء تحت ركام الحصار، ولن نركع في حضرة المجاعة.
رغم الجوع، يرفع الفلسطيني راية الكرامة. رغم الدمار، يبني أملًا في وطن حر. هذه الإرادة الشعبية تستحق أن تُسمع في كل المحافل الدولية، وأن تشكل دافعًا إضافيًا للمجتمع الدولي كي يتخذ خطوات جادة تجاه إنهاء الاحتلال، ووقف حرب الإبادة والتطهير العرقي التي ترتكب في غزة منذ أشهر.
إن استمرار الاحتلال الإسرائيلي ومنظومته العنصرية لا يعود فقط إلى آلة الحرب، بل أيضًا إلى تقاعس المجتمع الدولي عن الاعتراف الكامل بدولة فلسطين. إن أكثر من 147 دولة حتى الآن اعترفت بدولة فلسطين، ولكن هذا الاعتراف لم يُترجم بعد إلى مقعد دائم في الأمم المتحدة، ولا إلى مساءلة فعلية للاحتلال أمام المحاكم الدولية.
اليوم، ومع تفاقم الكارثة الإنسانية في غزة، لم يعد الاعتراف بدولة فلسطين مسألة رمزية، بل هو واجب أخلاقي وقانوني. لا يمكن أن يستمر العالم في التعامل مع فلسطين كـ"قضية" فقط، بل يجب أن يُعامل شعبها كشعب له سيادة، وأرضه كأرض محتلة، ومطالبه كحقوق مشروعة.
الاعتراف الدولي بدولة فلسطين على حدود 1967، وعاصمتها القدس، يجب أن يكون بندًا أساسيًا في أي مسار سلام حقيقي. وهو، قبل كل شيء، حق طبيعي لشعب يرزح تحت الاحتلال منذ أكثر من سبعة عقود.
وسط هذه الظروف المأساوية، تبرز الحاجة الملحة إلى تحرك وطني موحد وجاد من كل القوى السياسية الفلسطينية. إن الانقسام الداخلي ويُضعف الموقف الفلسطيني في الساحة الدولية.
المطلوب اليوم هو اتفاق فلسطيني جامع على برنامج سياسي واحد، يوحّد الجهود نحو تحقيق الأهداف الوطنية، ويعيد الاعتبار لمؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي ووحيد لشعبنا. وحدة الصف تعني قوة في التفاوض، وفاعلية في الدفاع عن الحقوق، ومصداقية أكبر أمام العالم.
إن ما جرى في القطاع ليس فقط فشلًا لمحاولة فرض وصاية إنسانية مزيفة، بل هو انتصار لإرادة شعب قرر أن ينتزع حقه في الحياة، حتى ولو اقتحم المجمعات الفارغة بحثًا عن كسرة خبز. إنه صوت يعلو فوق الدخان والركام، ليقول: "نحن هنا، وسنظل هنا، حتى تعترفوا بنا شعبًا حرًا، في دولة مستقلة، بلا احتلال ولا حصار".
لقد آن الأوان أن يسمع العالم هذا الصوت، وأن يتحرك بشكل فعلي لإنهاء المأساة في غزة، وإنهاء الاحتلال عن كل أرض فلسطين، والاعتراف بحق شعبنا في الحياة الكريمة، والسيادة الكاملة.