استراتيجية الكذب

 

 

 

إلى أين تمضي بنا الفوالق السياسية ما دامت أمريكا المتربعة على رأس النظام تعيش حالة من السقوط الأخلاقي، وقد باتت الصراعات على التشكيلات الجيوسياسية أسرع وأعنف في العالم، وباتت التوازنات النووية هي التي تحكم العلاقات بين القوى العظمى، بمشهد قاتم ومأساوي بات من الواضح أن المعادلة الاقليمية قد تغيرت، تسارع التحولات من تعزيز سباق التسلح الاقليمي والدولي إلى تحالفات أمنية جديدة، توسيع مبدأ الردع، مشاريع كبيرة تتربص بنا، ونعلم أن لعبة الحرب ستسمر حتى ينتصر طرف ويرسم معادلة جديدة للعالم، فالحروب ضرورة للسيطرة والهيمنة على منابع النفط والثروات ومقدرات الشعوب ومواجهة خطر أي قوة صاعدة، صراعات وحروب لن تهدأ طالما هناك قوى تمارس البلطجة والانحطاط الأخلاقي وتسوق رؤيتها الخاصة للعالم بتقديم أمنها القومي كأولوية ولو كان على دماء وجثث الأخرين، ومادام العالم بيد ثلة من المجانين.

شعارات السلام والتسامح وانهاء ملفات الحروب التي أطلقها ترمب بحملته الانتخابية خدعة، ترمب بصورته الوحشية يحارب في فلسطين وفي الشرق الأوسط، شن هجوم بالقاذفات والقنابل على ثلاث منشآت تعتبر نواة البرنامج النووي الإيراني بعد تضليل وخداع، لا ضير إن كان رئيس أكبر دولة يكذب ويناور والآن ينهي الحرب ويدعو إلى التفاوض، يفعل ما يشاء وكأنه القضاء والقدر!!، الجدال الكبير الحاصل في الداخل الأمريكي حول الضربات يحدد مستقبل المنطقة هل هو استمرار للحرب أم السلام؟، إذ يشكك خبراء عسكريين بنجاح ترمب في تدمير البرنامج النووي الإيراني بعد عجز توأمه نتنياهو تدميره ربما كان يحتاج لتميره قنبلة نووية ولا ندري لماذا لم يستخدمها!، لا توجد صورة واضحة حول أثار هذه الضربة وكل التقارير الاستخباراتية تتحدث عن مقدرة البرنامج النووي للعودة مجدداً، وترمب بالكذب الاستراتيجي يحاول اخفاء حقيقة ما جرى ويصر على محو الملف النووي بالكامل لأنه يحتاج إلى النصر!!، تدمير الملف النووي ادعاء باعتراف إسرائيل ومدير الطاقة الذرية رافاييل غروسي يرى أن مخزون إيران لم يتعرض لأضرار كبيرة برغم الضربات القاسية و"التدمير أمراً مبالغ فيه".

إيران انتصرت رغم كلفة الحرب التي دخلتها مجبرة بما يضمن أمنها وكبريائها، إيران ستجد نفسها ضحية إذا لم تطور سلاحها النووي، تسريع النشاط النووي بعد الهجمات الأمريكية التي لم تحصل منذ عقود ينظر لها على أنها بداية تسليح البرنامج النووي الإيراني وخسارة استراتيجية مدوية لكل من إسرائيل وأمريكا، والرد الإيراني كان مدمراً وشديد الخطورة لم يتوقعه نتنياهو وترمب، أثبت ضعف إسرائيل ودفاعاتها الجوية وهشاشة البنية المجتمعية الاستيطانية، حلم إسرائيل الكبرى يكاد يتلاشى مع موجات الهجرة العكسية واقتصاد مهدد، فبدأ الصراخ والاستغاثة لبت الدولة العميقة ندائها فالعلاقة حميمية ومعقدة، الخطاب الصادر من إيران ينظر لبلد يستعد لمواجهة عسكرية أخرى، لا تفاوض مباشر مع أمريكا فلا قيمة للتفاوض والقيمة الحقيقية للسلاح والحرب، ستعاود إيران ممارسة نشاطها هذه المرة بعيدة عن الرقابة بعد تعليقها التعاون مع وكالة الطاقة الذرية المتهمة بالتجسس ضد الأمن الإيراني، "غروسي رسول الدولة العميقة الأمريكية يصر على تفتيش المنشآت النووية ربما لكشف كذب ترمب والبنتاغون"، ولكن ماذا لو لم يدمر البرنامج النووي فهل يبدأ الهجوم بضربات أعنف ونقض الاتفاق؟!، طبعاً لا، يبادر للأذهان أنه يبرر التحرك العسكري الصهيوأمريكي، لكن سيكون الأمر معقداً سياسياً بسبب معارضة الداخل الأمريكي على التدخل المباشر، ويؤكد كذب ترمب بتدمير الملف النووي ويستوجب محاكمته قضائياً بتهمة التضليل والخداع وفرصة لإسقاطه، وهوما يخشى منه ترمب ونتنياهو في الفترة المقبلة.

"عاد الجميع منتصرين في حروبهم، لملموا بقايا الشظايا عن أجسادهم واستحموا جيداً...تعطروا ولمعوا نياشينهم... تركوا الشاشات تحلل كيف تتوقف الحروب فجأة ويتصافح المتحاربون.. ونسوا في التحليل كيف تركوا الناس تموت وهي تطارد خلف رغيف الخبز"، 500 شهيد منذ اطلاق مؤسسة غزة الانسانية عملياتها في غزة، ولكن خطر الموت لا يثنيهم بالبحث عن الطعام، فالجوع كافر.  

نتنياهو بين حرب غزة وايران وتسويات سياسة كبيرة بدأت بانتهاء الحرب بين إيران وإسرائيل بضغط أمريكي، وانهاء ملف إيران النووي حسب رواية ترمب- نتنياهو، والآن حرب غزة بعد أن وصلت إسرائيل إلى ذروة المتاهة بعد سنتين من القتال ولم يتحقق أياً من أهدافها الاستراتيجية سوى مزيد من القتل والتدمير، ملف المختطفين الذي بات يشكل ضغطاً كبيراً على نتنياهو، والعمليات النوعية للمقاومة الفلسطينية راح ضحيتها مؤخراً ضابط وجنوده الستة فالمعركة معركة الوجود الفلسطيني، استمرار المأساة الانسانية الملف الأكثر خطورة والضغط الأوروبي والضغط السياسي من المعارضة التي تسعى لإسقاطه من الداخل ليس هناك مبرر لمزيد من القتل والتدمير، الجميع مدرك أن الحرب مستمرة فقط من أجل نتنياهو أليست "حرب نتنياهو"؟! كل ذلك يشكل ضغطاً كبيراً على نتنياهو بضرورة انهاء الحرب، الجيش الإسرائيلي والمؤسسة الأمنية يؤيدان وقف الحرب، كل المبادرات لم تصل إلى شيء لأن السلطة السياسية "مدفوعة بعقيدتها التوراتية التوسعية بطرد الفلسطينيين من غزة والضفة، لا بل سحقهم"، لا تريدها.

والجديد نتنياهو يريد وقف اطلاق النار مع ترمب وليس مع الفلسطينيين كصفقة لضمان مستقبله السياسي وبقائه في الحكم والعفو عنه بالتهم الموجهة إليه في المحكمة الإسرائيلية، ترمب يدرك أن دون وقف الحرب في غزة كل شيء هش، ويرى أن الحرب لن تنتهي بالصيغة الحالية للائتلاف الحكومي، والإسرائيليون أمامهم خياران اما استمرار الحرب أو العفو عن نتنياهو، "أمريكا أنقذت إسرائيل والآن ستنقذ نتنياهو، محاكمة نتنياهو ذات دوافع سياسية فدعا إلى الغائها"، نتنياهو المنتشي بالنصر اليوم أسير لمجموعة من السرديات السياسية الكاذبة التي قام ببنائها في الفترة الماضية وحكومته غير مقتنعة بالذرائع التي يسوقها، بن غفير يهدد بالاستقالة ويضع شروط للبقاء في الحكومة وهو الاستمرار في الحرب وقطع الامدادات الغذائية عن غزة بتاتاً، وربما هذه المطالب تشكل عقبة في شكل العلاقة بين نتنياهو وترمب في المستقبل، وبنهاية المطاف على أمريكا أن تضغط على إسرائيل التي تهمها العلاقة مع أمريكا، وعندما أمريكا تغير سياستها  بالدعم غير محدود، تتحول المعادلة الداخلية بإسرائيل فهناك من يريد السلام. ولكن ما نعلمه أن إسرائيل لن تكون كما قبلها وزعزعة الوجود الإسرائيلي ربما يكون ولادة شرق أوسط جديد برؤية فلسطينية بحتة وعالم جديد أكثر عدالة.

 

 

 

 

Loading...