في ظل التصعيد الإقليمي الواسع في الشرق الأوسط، تعود مواقف دونالد ترامب وتصوراته للمنطقة إلى قلب المشهد السياسي، لا بوصفه مرشحا رئاسيا اليوم، بل كمهندس فعلي لمشروع إعادة تشكيل الإقليم وفق مصالح الهيمنة الأميركية الإسرائيلية على قاعدة شراكتهم الإستراتيجية ومكوناتها العقائدية والثقافية والاقتصادية والأمنية. فما جرى منذ ١٣ حزيران من اعتداء إسرائيلي على إيران شكل تصعيد مباشر وغير مسبوق، كشف عن لحظة مفصلية يُعاد فيها بناء خرائط النفوذ، وتُرسم من جديد خطوط الاشتباك وقواعد الردع على إثر الردود الصاروخية الإيرانية وعلى وقع الضربات النارية والدبلوماسية، ومن خلفها صفقات سياسية يُراد فرضها بالقوة.
ما يجري وفق رؤية يتم تداولها عبر الاعلام والتصريحات المتناقضة لترامب ليس تسوية، ولا حتى صفقة سياسية تقليدية، بل هو تصور كامل لإعادة إنتاج النظام الإقليمي على أنقاض ما تبقى من موازين قديمة للنظام العربي. إنه مشروع "صفقة شاملة بالقوة "، يتم تداوله بصيغ مغلقة بين واشنطن وتل أبيب، ويتضمن وقف إطلاق النار في غزة مقابل ضم مناطق فلسطينية محتلة بالضفة لإسرائيل كما تم ضم القدس سابقا، وتوسيع اتفاقيات إبراهام بانضمام دول جديدة تم تدجينها واخرها سوريا عبر غزوة الجولاني، وتحصين أمن إسرائيل، مقابل ترتيبات تفرض على الواقع الفلسطيني ترهيبا وقسراً، وتفاهمات عربية تطبيعية تُدار من دون أي اعتراف حقيقي بحقوق شعبنا الفلسطيني.
اللافت أن هذه الصفقة تُطرح ليس فقط كخطة سياسية، بل كتحول جذري في قواعد إدارة الصراعات بالمنطقة. فقد جرى خلال السنوات الماضية، خاصة بعد فشل "صفقة القرن" بنسختها الأولى الانتقال من محاولة فرض التسوية عبر المفاوضات، إلى فرض الوقائع بالقوة العسكرية والسياسية. لم تعد أدوات الضغط الدبلوماسي كافية، بل أصبح من المشروع بنظر بعض القوى الغربية الكبرى استخدام الحرب كوسيلة لإنتاج الحلول، وشرعنة السيطرة على الأرض، وتحييد الأطراف بالقوة، وتمرير التفاهمات بتخويف الإقليم، وهو ما جرى سابقا عبر ما سمي بالربيع العربي وهو في حقيقته خريف أمريكي، وما تبع ذلك من ترتيبات فرضت في العراق وسوريا وليبيا وما يجري من محاولات لتنفيذها في لبنان اضافة الى التهديد المباشر عبر مسألة التهجير لكل من الاردن ومصر.
وتأتي هنا "خطة درع إبراهيم" التي تروج لها إسرائيل ومراكز أميركية، باعتبارها المنصة العملياتية لهذه الصفقة الشاملة، حيث تُطرح غزة كمختبر أول لإعادة تشكيل المنطقة من خلال:
كل ذلك يُدار في الوقت ذاته الذي تُمنح فيه إسرائيل حرية حركة استراتيجية على امتداد الإقليم، من لبنان وسوريا إلى إيران والعراق واليمن تحت عنوان "الردع الاستباقي"، أي استخدام القوة لمجرد الاشتباه بخطر محتمل، لا بناءً على أي تهديد حقيقي. وهنا تبرز الخطورة الأكبر. فنحن لا نشهد فقط صفقة سياسية، بل تحولاً في مفهوم الشرعية الدولية، حيث يُعاد تعريف الأمن والسيادة والحل السياسي بما يخدم تفوق إسرائيل ومصالح واشنطن بعيدا عن مفاهيم القانون الدولي وميثاق هيئة الأمم.
الغريب في هذا السياق، أن كل ذلك يحدث في ظل صمت رسمي فلسطيني، حيث تغيب القيادة عن تقديم موقف واضح من هذه التحركات التي تتناولها مصادر عدة، ودون رؤية تحررية في مواجهة ذلك. صمتٌ لا يمكن تفسيره إلا كنوع من التريث المريب أو العجز أو حتى الرهان على مسارات غير قائمة، في واقع نظامنا السياسي المأزوم بفعل عوامل عدة، نفتقر فيها الى الوحدة الواسعة لكافة فئات شعبنا وإلى ممارسة الديمقراطية الانتخابية العامة وإلى اعادة رسم المشروع الوطني التحرري في ظل المتغيرات الدولية الجارية من حولنا في إطار حركة التاريخ السياسي.
ففي لحظة مفصلية كهذه ، من المفترض أن تبادر القيادة في منظمة التحرير كممثل شرعي إلى الولوج فوراً دون تباطؤ الى توسيع قاعدة المشاركة الشعبية في اتخاذ القرار وإلى استنهاض دور المؤسسات الوطنية للمنظمة ، وإلى رفض صريح لهذه الرؤية ، وأن تطلق تحركا سياسيا ودبلوماسياً وشعبياً يعيد رسم الموقف الفلسطيني بعيداً عن الإملاءات الخارجية ، وبعيدا عن استغلال فكرة مبدأ حل الدولتين الذي تم افراغه من مضمونه ، والذي يستند اساسا الى إنهاء الاحتلال وتجسيد الدولة الفلسطينية على كافة الأراضي المحتلة وعاصمتها القدس وتنفيذ القرارات الأممية ذات الخصوص وبالمقدمة منها القرار 194 .
أما ترامب، فهو ليس بعيدا عن تفاصيل هذا المشهد، بل على الأرجح هو من يصيغ مساره الجديد. حيث لم يعد معنيا بأي حمله انتخابية، بل بإرثه السياسي كمُنظر جديد للهيمنة الناعمة والمباشرة في آن واحد لفرض التدخل العسكري. فهو من بدأ "صفقة القرن"، ويبدو أنه عازم على استكمالها بنسخة أكثر خشونة، تقوم على فكرة "الردع دون تورط"، وتطويع الأطراف بالضغط، وإنتاج شرق أوسط جديد لا مكان فيه لقرار فلسطيني مستقل ولا لجوهر قضية سياسية وطنية، ولا لسيادة عربية فعلية، ولا حتى لاحترام ميثاق الأمم المتحدة.
ان سياسة ترامب، كما تتجلى اليوم، تسير وفق رباعية متكاملة تتمثل في:
1. ضبط الصراع مع إيران من دون حرب شاملة، ولكن مع حرية ضربات استباقية.
2. تطويع إسرائيل ونتنياهو ضمن تفاهم سياسي، قضائي وأمني.
3. تشكيل تحالف إقليمي وظيفي تقوده إسرائيل، وتشارك فيه أنظمة عربية، ويُستخدم كغطاء لإخضاع شعبنا الفلسطيني ومصادرة حقوقه غير القابلة للتصرف.
4. تحييد أدوار الصين وروسيا بالمنطقة بالحد الذي يستطيع عليه من خلال اشغالهم بقضايا الاقتصاد وبؤر التوتر الاخرى في أوكرانيا وبحر الصين.
ما يجري الآن لا يشبه اتفاقيات أوسلو، بل يتجاوزها نحو هندسة كاملة للمشهد، بأدوات قسرية، تفاهمات فوقية وسيناريوهات تُفرض كما تُفرض شروط الاستسلام بعد الحروب الكبرى.
ويبقى السؤال الهام اليوم، هل سنكتفي نحن بالمراقبة والانتظار والإنكار؟ أم سنبادر لصياغة مشروع فلسطيني عربي مضاد، يرفض الهيمنة من بوابة "التطبيع الآمن"، ويُعيد للقضية الفلسطينية مكانتها كقضية تحرر وطني ديمقراطي لا كمشكلة إدارية وأمنية في نظام إقليمي مرسوم بالبوارج والطائرات والمسيرات وفرض التجويع والتدجين السياسي.