ما جدوى التطبيع؟

 

 

 

في الحرب العسكرية الكبرى هناك هدنة باستثناء غزة، الهيستيريا الدموية بأوجها والصمت على النازية الجديدة مطبق، مصير المنطقة على صفيح ساخن والنتائج كارثية اذا لم يتم ضبط ايقاع هذه الحرب داخلياً وخارجياً، وستكون مدمرة على إسرائيل أيضاً لأنها فقدت مكانتها الردعية لمحيطها بعد خوضها حرباً في منطقة صغيرة جداً لم تحسمها، غزة أخر ما تبقى لنا في الصراع هزت أمريكا كما إسرائيل، إسرائيل بأزمة وجودية ولا يمكن الا أن يكون خطابها بالحد الأقصى، وهنا تبدأ الصعوبة فالارتباك الإسرائيلي واضح فهم يقاتلون الأشباح بشهادة جنودهم، وعندما تريد الحد الأقصى من الضروري أن تؤمن الوسائل فالهدف كبير والوسائل محدودة، تحقيق الأهداف عملية صعبة وليست مستحيلة، وهذا مرتبط بالمدى المسموح لإسرائيل دولياً وأمريكياً، والرأي العام الغربي الذي أيد نتنياهو إلى أي مدى قادر على الصمود، وأخيراً المدة الزمنية لإنهاء هذه العملية والتكلفة، لكن نتنياهو استنفذ فرصه قتل كل شيء الا الروح الفلسطينية.

لدعم محاولاته لإنقاذ إسرائيل فمستقبل الشعب اليهودي بخطر "الحكاية الأمريكية نفسها"، بات ترمب الآمر الناهي يطلق مبادرته لوقف اطلاق النار وسلام سريع في غزة بتشجيع مشروع التطبيع مع الدول العربية، نتنياهو المتهم بملفات فساد ورشوة أمام محكمة كيانه وجرائم ضد الانسانية دولياً سيوقع على اتفاقيات سلام بالرغم مما تركه من تدمير وقتل في غزة ولبنان وسوريا، وسيغيب عنها الشرط العربي إقامة دولة فلسطينية، لا مكان لحل الدولتين وتنفيذ مخطط إسرائيل المدفوعة بعقيدة توراتية توسعية والرامي إلى طرد الفلسطينيين من غزة والضفة، لأن قيام الدولة الفلسطينية هو النقيض للدولة اليهودية، فحماس الموجودة ضمن حيز جغرافي محاصر امتلكت ترسانة عسكرية لا يستهان بها، فكيف إذا قامت دولة فلسطينية منزوعة السلاح فإلى متى ستبقى منزوعة السلاح!. التطبيع هو اليوم التالي، وقد يكون اليوم التالي للحرب أكثر فظاعة من أيام الحرب أمام مخاطر استئناف المفاوضات من تباينات وخلافات فلسطينية، وهرولة للتطبيع العربي، إذن التطبيع "الترويض" عنوان المرحلة، ومن يستطيع أن يقول لترمب لا، فهناك حالة عدم تيقن حقيقية لدى الأخرين بما سيفعله؟!، لا رهان على أمريكا ولا حلفائها، دمج إسرائيل في الشرق الأوسط الجديد الخارج من رحم صراعات كبرى ومناخ عالمي بالغ التعقيد، أصبح جاهز بما يتناسب والضرورة الأمريكية، البداية كانت بأفغانستان والعراق باستخدام القوة للإطاحة بأنظمتها، ثم تفكيك سوريا ولبنان لتصبح ساحات غير مستقرة لأهميتها الجيوسياسية والتي قد تؤثر على دول الجوار والسياق الاقليمي، إسرائيل هي الرابح من خلال استغلال القدرات العربية "باستثمار وتصدير خبراتها الأمنية والتكنولوجية والطبية والزراعية" كي تدخل لخزينتها، ما يعني أمريكا إسرائيل بما يخدم أهدافها لتصبح قوة سياسية واقتصادية اقليمياً وحتى دولياً، ورعاية مشاريعها الجيواقتصادية للهيمنة على المنطقة.

ولكن هناك سلام أمريكي في المنطقة كانت القضية الفلسطينية حاضرة فيه، بدأت وفقاً لسياسة الخطوة بخطوة وتحقيق اتفاقات مؤقتة وليست دائمة لمجمل الصراع العربي الإسرائيلي، مع بدء سباق التطبيع العربي الذي بدأ بدولتين "من دول الطوق"، فأخرجت مصر من الصف العربي باتفاقية كامب ديفيد عام 1979، وكانت منعطفاً في تشكيل تحالفات جديدة بين أنظمة عربية حليفة للغرب تربطها علاقات مع إسرائيل، ثم جاء اتفاق أوسلو مع منظمة التحرير الفلسطينية عام 1993، الذي خلق واقعاً يستحل عكسه فأنهى الصراع الطويل بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي من خلال الاعتراف المتبادل بالحقوق الشرعية والسياسية المتبادلة، وأنهى الصراع العربي الإسرائيلي وفتح فرصة أمام الأنظمة العربية على انزال السقف في العلاقة بإسرائيل إلى حد التعاون والتطبيع، ثم اتفاقية وادي عربة مع الأردن سنة 1994، تلتها اتفاقيات ابراهام  الترامبية المثيرة للجدل لأنها أبرمت بين دول عربية لم يكن بينها وبين إسرائيل أي عداوة مباشرة أو حروب، مما شكل فرصة ذهبية لإسرائيل لإضعاف الظهير العربي والاستفراد بالفلسطينيين الذين وجدوا أنفسهم بدون دولة مع مواصلة العلاقات مع العالميين العربي والاسلامي، إسرائيل تريد خلق اشكالات عندما تريد طرد الفلسطينيين من أرضهم إلى مصر والأردن، وبالتالي خلق مشكلة اقليمية ودولية مستغلة ازداد النفوذ الأمريكي بالمنطقة، الذي لم يلزم إسرائيل بتقديم تنازلات تؤدي إلى قيام دولة فلسطينية مستقلة لتصاب القضية الفلسطينية بنكسة جديدة.

السلام مقابل السلام دون تسوية القضية الفلسطينية مستندة على مبدأ القوة فما حاجة إسرائيل للتطبيع وهي القوة الضاربة!! ولكن هذا الانتصار ربما يتحول إلى هزيمة، إسرائيل تحت ضغوط أزماتها وعجزها وخسارتها الاستراتيجية في غزة، وسعت رقعة الحرب ثأراً لهيبتها، خسرت معركة الصورة وبدأ ظهور واضح لأصوات تندد بإسرائيل وتدين تواطؤ حكوماتهم وأنظمتهم معها، وأصبح هناك سردية بديلة كانت هناك فرصة لرؤية الحقيقة ومشاهدة الابادة الجماعية والتجويع فكل الضحايا سقطوا بمباركة أمريكية، بدأ الاعلام الغربي يتكلم عن جرائم وانتهاكات إسرائيل في غزة وعن الحق الفلسطيني بدولة ذات سيادة على أرضه، كاشفاً تناقض الخطاب الرسمي الذي يدعي وقوفه إلى جانب الفلسطينيين ويدعم إسرائيل، مما أدى إلى انقسام الرأي العام الغربي حول القضية الفلسطينية وتناقضات داخل المجتمعات الغربية والأمريكية، ازدياد بالوعي وصحوة تجتاح ليس فقط أمريكا بل غالبية الدول الأوروبية والعالم أكثر تعاطفاً مع الشعب الفلسطيني، وبدأ يتكون رأي عام رافضاً للهرمية السياسية والاجرام المؤسساتي المنظم داخل البلاد وخارجها، مما يعكس تحولات عميقة على مستوى الوعي عند الشعوب الغربية والأمريكية وخاصة جيل الشباب. هناك مفكرين يستشفون نهاية عصر الصهيونية، ونهاية سردية رباها الكذب والمال طوال سبعين عاماً أن الكيان ملجأ من الاضطهاد النازي والديمقراطية في المنطقة ويظهر ببساطة أنها قاعدة عسكرية عنصرية أمريكية وغربية.

ترمب يعي أن التطبيع العربي حتمي، وأتٍ لا محالة، لكن من الصعب زرع كيان والاعتراف به كدولة طبيعية تعيش في المنطقة، التركيز الآن على سورية ولبنان دول الطوق، وعلى السعودية كدولة محورية ومؤثرة عربياً وإسلامياً، من خلال التطبيع، والموقف السعودي واضح من التطبيع ومشروط، فلن يكون هناك علاقة مع إسرائيل بدون ثمن وما يجري في غزة لا يسمح لأي حراك أو المضي في تطبيع علني!!، أما المواقف والسياسات الإسرائيلية التي لم تضمن تنفيذ الاتفاقيات السابقة على علاتها ونواقصها, فإنها بالتأكيد غير قادرة على توصل حكومة نتنياهو على مجرد الدخول في مفاوضات قضايا الحل النهائي أو رعايتها والتزامها بنتائجها، القضية الفلسطينية ليست صفقة تجارية يا سيد ترمب، هناك عصبية وحالة زلزالية فلسطينية ساهمت في صناعة الوعي واللاوعي الفلسطيني والذي هو خطوة كبيرة نحو بقاء المأساة الفلسطينية قائمة ومطروحة على دول العالم حتى إيجاد حلول عادلة، وللتوصل إلى أي تسوية قد تحتاج إلى حرب كبرى بتداعيات كارثية على سائر القوى، فما جدوى التطبيع؟!

 

Loading...