روما- رحل إلياس خوري، لكن صوته ما زال يتردّد بين أزقّة بيروت ومخيّمات فلسطين، كأنه جسرٌ من الكلمات بين وطنين مجروحين. لم يكن مجرّد روائي، بل شاهداً على زمنين: زمن لبنان الذي التهمته الحرب الأهلية، وزمن فلسطين التي حوّلها الاحتلال إلى ملحمة نكبة متواصلة. كتب عن بيروت كما كتب عن غزة، ورأى في طرابلس صورة لمأزق الإسلام السياسي، كما رأى في شاتيلا واليرموك مرآةً للمنفى الفلسطيني.
وفي واحدة من عباراته التي تختصر مشروعه، قال:
«الإنسان يرث بلاده كما يرث لغته، لماذا نحن فقط من بين كل شعوب الأرض علينا أن نخترع وطننا كل يوم، وإلا ضاع كل شيء ودخلنا في النوم الأبدي؟»
هكذا تختلط في نصوصه الشاعرية بالحقيقة السياسية: الذاكرة ليست عنده أرشيفاً، بل جرحاً مفتوحاً، والخيال ليس هروباً بل وسيلة للبقاء. بحدس الروائي قرأ مبكراً أن المأساة واحدة، وإن اختلفت الأسماء والجغرافيا: لبنان وفلسطين وجهان لجراح المشرق، والحرية فيهما لا تُستعاد إلا بكسر جدار النسيان.
في ذكرى رحيل الأديب الكبير إلياس خوري (1948-2024)، يُستعاد مساره الأدبي والفكري الذي ترك بصمة لا تُمحى في الأدب العربي، بوصفه روائيًا وناقدًا وصحافيًا وفاعلًا سياسيًا.
السيرة والأعمال
وُلد خوري في بيروت عام 1948، ودرس التاريخ في الجامعة اللبنانية، ثم أكمل دراسات عليا في باريس. انخرط في العمل الثقافي والسياسي منذ شبابه، فعاش تجربة الحرب الأهلية اللبنانية وكتب عنها، مشاركًا في صياغة الذاكرة الجمعية للأحداث من موقع نقدي وإنساني. عمل محررًا ورئيسًا لتحرير الملحق الثقافي في جريدة النهار، وكتب في عدد من الصحف والمجلات العربية.
أصدر أكثر من 12 رواية تُرجمت إلى لغات عديدة، منها: عن علاقات الدائرة (1975)، الجبل الصغير (1977)، أبواب المدينة (1981)، الوجوه البيضاء (1981)، مملكة الغرباء (1993)، باب الشمس (1998)، كأنها نائمة (2007)، سينالكول (2012)، أولاد الغيتو – اسمي آدم (2016)، نجمة البحر (2019)، ورجل يشبهني (2023). كما ألّف دراسات نقدية مثل الذاكرة المفقودة.
علاقته بفلسطين
ارتبط خوري عميقًا بالقضية الفلسطينية، وجعلها في صميم مشروعه الأدبي. روايته “باب الشمس” تحوّلت إلى ملحمة فلسطينية حديثة، صاغت ذاكرة النكبة واللجوء والمقاومة من خلال الحكاية الشعبية والذاكرة الفردية والجماعية. أما في “أولاد الغيتو – اسمي آدم”، فقد أعاد تصوير معاناة الفلسطيني الذي يعيش في ظل التهجير والنسيان.
كتب خوري عن فلسطين لا بوصفها قضية سياسية فقط، بل كشرط وجودي، فقال:
«فلسطين ليست قضية… الأرض لا تتحرك من مكانها. الأرض تبقى، ولا أحد يستطيع أن يحملها، فهي التي تحتضن البشر في النهاية.»
وفي موضع آخر لخّص فلسطين كهوية جمعية:
«فلسطين ليست علمًا ولا حدودًا، إنها حالة. كل عربي فلسطيني، كل فقير يحمل بندقية هو فلسطيني. فلسطين هي شرطنا جميعًا.»
بلغة رمزية أيضًا جعل من أبسط الأشياء تجسيدًا للوطن، ففي باب الشمس يكتب:
«قطفت برتقالة من الشجرة لأذوق فلسطين، لكن أم حسن صاحت: لا! هذا ليس للأكل، هذه فلسطين. يجب أن نأكل برتقال فلسطين، وأن نأكل فلسطين والجليل.»
التجربة اللبنانية والسياسية
لم يكن إلياس خوري مجرّد روائي، بل فاعلاً سياسيًا في الحياة اللبنانية. انخرط في صفوف الحركة الوطنية اللبنانية أثناء الحرب الأهلية، وكان قريبًا من النقاشات اليسارية الكبرى في السبعينيات والثمانينيات.
وفي عام 2001 شارك إلى جانب مجموعة من المثقفين والسياسيين، أبرزهم زياد ماجد وسمير قصير، في تأسيس حركة “اليسار الديمقراطي”، كتيار يساري جديد ينادي بالديمقراطية والعلمانية والعدالة الاجتماعية، ويقف في مواجهة الاستبداد والهيمنة الطائفية. هذه التجربة مثّلت امتدادًا لالتزامه بفكرة التغيير الجذري في لبنان عبر الأدب والسياسة معًا.
سينالكول: فضح الإسلام السياسي
في روايته “سينالكول” (2012)، قدّم إلياس خوري صورة قاسية وشفافة عن طرابلس اللبنانية، المدينة التي تحوّلت إلى مختبر لصعود الإسلام السياسي. من خلال شخصياتها الهشّة والممزقة، كشف خوري تناقضات التدين المظهري مع عنف الواقع، وكيف يُستَغل الدين كقناع للسلطة والهيمنة. عنوان الرواية نفسه – سينالكول، الشراب الخالي من الكحول – جاء كاستعارة جارحة للنفاق: حيث يبدو المشروب أقرب إلى الوهم، تمامًا كما يظهر خطاب بعض التيارات الدينية طاهرًا من الخارج بينما يفرغ الداخل من المعنى.
«كلّنا ضحايا هذه الحرب، لكنّنا أيضًا جلّادوها. نرفع رايات الله لنغطي بها خوفنا، ونشرب الوهم كما نشرب السينالكول، بلا طعم ولا نشوة، لكننا نصرخ: هذا هو الإيمان.»
هنا نجح خوري في فضح البنية الأيديولوجية التي غذّت الحروب الصغيرة في المدينة، رابطًا بين مأساة الأفراد وأزمة مجتمع يتأرجح بين المقدس والعنف. وإذا كانت سينالكول قد كشفت في مطلع الألفية المبرِّرات الأخلاقية الزائفة التي يتكئ عليها الإسلام السياسي، فإن مشهد اليوم يجعل هذه الرؤية أكثر وضوحًا: فـ**”جبهة تحرير الشام”** في سوريا، بقيادة أحمد الشرع (الجولاني)، صعدت إلى السلطة باسم الدين لكنها مارست أبشع أشكال القمع والسيطرة، فيما حركة حماس في غزة تحوّلت من خطاب المقاومة إلى سلطة متنازعة مع المجتمع نفسه. بذلك تبدو سينالكول ليس مجرد رواية عن طرابلس، بل نبوءة مبكرة عن مأزق الإسلام السياسي في المشرق العربي، حيث الشعارات الدينية تخفي واقعًا سلطويًا متصدّعًا.
الذاكرة والإنسان
خوري لم يكتب عن التاريخ كأرشيف، بل كوجع يومي يلاحق الناس. ففي إحدى عباراته الشهيرة يقول:
«الذاكرة مرض… مرض غريب أصيب به شعب كامل، مرض جعلكم تتخيّلون الأشياء وتبنون حياتكم في خيال الذاكرة. »
وبهذا المعنى، حوّل خوري الأدب إلى وسيلة مقاومة ضد النسيان، وأداة لحفظ الهوية من الضياع.
الخاتمة
إلياس خوري جمع بين تجربة لبنان الممزق وذاكرة فلسطين المقاومة، ليصوغ أدبًا إنسانيًا يواجه النسيان ويمجّد الحرية. رحل الكاتب، لكن نصوصه ستبقى حيّة، شاهدة على أن الأدب يمكن أن يكون ساحة للنضال بقدر ما هو فن للكتابة.
عن موقع أخباركم أخبارنا