مرة أخرى، يمد البيت الأبيض طوق النجاة لدولة الاحتلال الاستيطاني، وهذه المرة عبر استخدام الفيتو مجددا قبل أيام في مجلس الأمن لإسقاط مشروع قرار يطالب بوقف فوري ودائم وغير مشروط لإطلاق النار في غزة. أربعة عشر عضواً أيدوا مشروع القرار، وحدها واشنطن قررت أن الدم الفلسطيني يمكن أن يستباح بلا سقف أو حدود، وأن المجازر يمكن أن تُغطى بذريعة الحق في "الدفاع عن النفس” وفي الرؤية الدينية المزعومة "بأرض اسرائيل"، تجسيدا لفكرة جوهر الحركة الصهيونية العالمية "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض “.
الفيتو الأميركي ليس إجراءً دبلوماسيا عابراً ولا مفاجئا، بل إعلان صريح بأن الولايات المتحدة شريك تاريخي في العدوان على شعبنا الفلسطيني وبالجرائم المرتبطة بحقه. فهي لم تكتفي بتزويد إسرائيل بالسلاح حتى المحظور منه وتأمين الغطاء السياسي لجريمة القرن ٢١، بل استخدمت سلطتها في مجلس الأمن لحمايتها من أي مساءلة دولية. بهذا السلوك عبر سبعة عقود، وبهذا تكون واشنطن للمرة المليون لا تحمل صفة “وسيط مزعوم” بل طرف أصيل في استمرار الجرائم.
الإدارة الأميركية تُصر على أن أي وقف لإطلاق النار يجب أن يُربط بإطلاق سراح "الرهائن" وضمان "أمن" إسرائيل وهي الدولة التي تمارس الإرهاب، بينما لا ترى أن حياة أكثر من مليوني فلسطيني تحت الحصار والتجويع والقتل تستحق الأمن اولاً وكل الشروط المرتبطة بذلك وفق القانون الدولي، بل وان حياة كل الشعب الفلسطيني تستحق انفاذ القرارات الأممية وشروط الحرية والكرامة والأمن والاستقلال الوطني. هذه المعادلة تكشف جوهر السياسة الأميركية المتمثلة في أن أمن إسرائيل هو فوق القانون الدولي وفوق مبدأ حق الشعوب في الحياة وتقرير المصير وفي تعزيز دورها المتقدم في خدمة المشروع الاستعماري بكل المنطقة.
لحظة التصويت أظهرت الولايات المتحدة معزولة أمام إجماع شبه كامل من أعضاء مجلس الأمن الدولي. هذه العزلة لا تعكس مجرد انقسام دبلوماسي، بل تعبير عن تراجع مكانة واشنطن "الأخلاقية" التي تدعيها. العالم بات يرى أن الفيتو الأميركي يُستخدم كسلاح وضوء اخضر بل وشريك لاستدامة هولوكوست غزة والاحتلال الاستيطاني وواقع الضم المتدحرج والابرتهايد بباقي الأراضي الفلسطينية. وأن النظام الدولي مُختطف لخدمة مصالح قوة عظمى وحليفها العنصري الاستيطاني الإحلالي إسرائيل، رغم ان كلاهما يعيشون أزمات متعددة الأوجه، ما يستدعي استمرار وتصعيد الضغط الشعبي الدولي المتمثل بالانتفاضة العالمية لأجل حرية فلسطين، وبناء وتعزيز التحالفات السياسية مع دول الشرق والجنوب العالمي.
الفيتو الأميركي الجديد والمتكرر يضع نهاية لأي وهم بأن واشنطن قد تكون وسيطاً في عملية سلام. هي طرف بل وشريك في عدوان التطهير العرقي والتهجير، تستخدم قوتها لإدامة الاحتلال، وتغطي مشروع التهجير والتجويع والتدمير في غزة وحتى في كل مناطق الدولة الفلسطينية المحتلة وعاصمتها القدس، التي تسارع دول العالم اليوم للاعتراف بها، رغم الحاجة إلى تجسيد هذا الاعتراف من خلال اتخاذ اجراءات المقاطعة والمحاسبة والعقوبات، وبما يفضي الى وقف المحرقة فوراً وإنهاء الاحتلال أولاً. وهذا يُحتم على الشعوب العربية والإسلامية أن تعيد النظر في علاقاتها ومراهناتها بما يتقدم على نتائج ومقررات القمة التي عقدت قبل ايام بالدوحة والتي لم ترتقي الى مستوى ما يجري ليس بحق فلسطين اولاً لكن بحق سيادة ووحدة أراضي الدول العربية أيضاً، وأن تضغط على حكوماتها لتبنّي سياسات مستقلة تُعلي من شأن كرامتهم أولاً، ومن التضامن مع فلسطين، لا من شأن الرضوخ للابتزاز والهيمنة الأميركية.
رغم الفيتو، المعركة السياسية لم تنتهي، فالجمعية العامة للأمم المتحدة تظل ساحة مهمة خلال الايام القادمة لإصدار قرارات بأغلبية واسعة تكسر الحصار الذي تمارسه إسرائيل علينا وتُدين دولة الاحتلال وتزيد من عزلتها ومعها الولايات المتحدة، والتي ابتدأت بالتدحرج يوم أمس من خلال التصويت بالأغلبية على قرار يسمح للأخ الرئيس محمود عباس بمخاطبة الجمعية العامة من خلال تقنية الاتصال المرئي بعد ان كانت الولايات المتحدة قد رفضت منحه تأشيرة دخول في انتهاك صارخ لاتفاقية مقر الأمم المتحدة. كما أن تفعيل المحاكم الدولية والآليات الحقوقية يمكن أن يضع المسؤولين الإسرائيليين ومعهم داعميهم في موقع المساءلة والملاحقة والإدانة وتلقي العقاب أسوة بمسار محاكم نورمبرغ زمن جرائم النازية ضد الشعوب الأوروبية.
الأهم اليوم هو وضوح المشروع الوطني التحرري والقيم المرتبطة به وبالمقدمة منها نضالنا الوطني ، والتي تشكل بمجملها رابط وجودنا وصمودنا واستمرارنا بالتاريخ ، والمتمثلة اليوم بالمقاومة الشعبية والسياسية والدبلوماسية والقانونية المتكاملة سنداً للفكرة الفلسطينية التاريخية ، وتوحيد الصف الوطني الفلسطيني على برنامج وطني واضح عقلاني ومقاوم لمشاريع تصفية الهوية والوجود ، وبأدوات قادرة بمنهج انتخابي وديمقراطي واسع في أطار منظمة التحرير كجبهة وطنية عريضة فاعلة وقائدة للتحرر الوطني حتى دحر الاحتلال واسقاط المشروع الصهيوني الإحلالي العنصري في فلسطين ، هو ما يجعل من كل فيتو أميركي سلاحاً مرتداً على أصحابه المستعمرين .
الفيتو الأميركي الأخير لم يكن دفاعا عن إسرائيل فقط، بل هو دفاع عن مشروع استعماري عقائدي وسياسي واقتصادي ممتد منذ حوالي قرن من الزمن، ودليل آخر لمن زال يعيش الوهم والخوف على أن واشنطن لم تعد قادرة على إخفاء شراكتها في جرائم الإبادة الجماعية والتهجير وتنفيذ فكرة "إسرائيل الكبرى التوراتية " ضمن مشروع "الشرق الأوسط الجديد". ومع كل جريمة جديدة، تتضح الحقيقة أكثر، أن الدم الفلسطيني لا يسيل فقط برصاص الاحتلال، بل بغطاء الفيتو الأميركي ومواقف الخوف والإذعان من البعض.