تمثل إسرائيل في مخيال الكثيرين، نموذجاً استثنائياً يجمع بين صورة الدولة الديمقراطية المتقدمة في الغرب، وسردية "أمة تبدأ من الصفر" في الشرق الأوسط. لكن وراء هذه الصورة المبهمة، تنقسم إسرائيل إلى واقعين متباينين بشكل حاد، واقع تُحكَم خيوطه من قبل نخبة ضيقة تتمتع بثروات هائلة ونفوذ غير محدود، وآخر تعيشه أغلبية مجتمعية تكافح من أجل تأمين أبسط مقومات الحياة الكريمة. ليست الفجوة الطبقية في إسرائيل مجرد تفاوت اقتصادي عابر، بل هي تشقّق عميق يهدد الأسس التي قام عليها الكيان، وهو أحد العوامل الجوهرية التي تُسرِّع في زواله، ليس بالمعنى الحرفي بالضرورة، بل بمعنى تآكل شرعيته الداخلية، وتفكك نسيجه الاجتماعي، وتحوّله إلى كيان غير قادر على الاستمرار في أداء وظائفه الأساسية تجاه معظم مواطنيه.
تتجلّى مظاهر هذه الهوّة الطبقية السحيقة في مجالات عدّة، أولها وأكثرها وضوحاً هو التفاوت الاقتصادي الصارخ. وفقاً لتقارير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) ، تُصنَّف إسرائيل باستمرار بين أكثر الدول الأعضاء تفاوتاً في توزيع الدخل. يعيش حوالي ربع السكان تحت خط الفقر، بينما يتركز أكثر من نصف الثروة الوطنية في أيدي العشرية العليا من السكان. هذا التفاوت ليس مجرد رقم إحصائي، بل هو واقع يومي يعيشه مئات الآلاف من العائلات التي تكافح من أجل سداد الإيجار وشراء الطعام ودفع فواتير العلاج الطبي. يقابل هذا واقع النخب المالية والصناعية التي تعيش في عزلة تامة عن هذا الواقع، محصّنة بثرواتها ونفوذها السياسي.
لكن هذه الفجوة الاقتصادية ليست محايدة، بل هي مُلوَّنة ومُجنَّسة وطائفية بامتياز. فهي تتقاطع مع انقسامات إثنية عميقة الجذور، حيث يُعدّ اليهود الشرقيون (الْمِزراحِيم) الأكثر تضرراً بشكل منهجي. فبعد عقود من التمييز في سياسات الاستيعاب والتوطين، والتوجيه إلى مسارات تعليمية ومهنية متدنية، لا يزال أحفاد هؤلاء المهاجرين يعانون من فجوات دخل كبيرة مقارنة بنظرائهم اليهود الغربيين (الأشكناز). فمتوسط دخل الأسرة الأشكنازية لا يزال أعلى بشكل ملحوظ، كما أن تمثيل المزراحيم في مراكز القوة الاقتصادية والسياسية والأكاديمية يبقى ضئيلاً ومحدوداً. هذا الإرث من التهميش لميُحسَم، بل تحوّل إلى شكل جديد من الفصل الطبقي، حيث أصبح الفقر والحرمان يُورَّثان داخل مجتمعاتهم.
كما أن الفجوة بين الجنسين تُضاعف من هذه الإشكالية. فسوق العمل الإسرائيليّة تتسم بفصل قائم على النوع الاجتماعي، حيث تتركز النساء في المهن ذات الأجور المتدنية وفي العمل الجزئي، بينما تهيمن الذكورية على المناصب القيادية والقطاعات التقنية العالية الأجر. تؤدي هذه الفجوة إلى إفقار ممنهج للأسر التي تعيلها نساء، وتساهم في تكريس دائرة الفقر.
أما في مجال التعليم، فتظهر الفجوة كعامل محوري في إعادة إنتاج التفاوت. النظام التعليمي في إسرائيل منقسم إلى عدة مسارات: نظام النخبة العلماني، ونظام التعليم الديني الصهيوني الذي يحظى بتمويل كبير، ونظام التعليم الديني المتشدد (الحريديم) الذي يُهمّش المواد الأساسية مثل الرياضيات واللغة الإنجليزية، ونظام التعليم العربي الذي يعاني من تهميش مزدوج. نتيجة هذا التقسيم الطائفي الطبقي هي فجوة هائلة في التحصيل العلمي والمهارات. يخرج الطلاب من المجتمعات المهمشة، سواء العربية أو المزراحيم أو الحريديم، إلى سوق عمل غير مستعدين له، محرومين من الأدوات التنافسية، مما يضمن بقاءهم في قاع الهرم الاقتصادي، بينما تُهيئ المسارات النخبوية أبناء الطبقات العليا لقيادة الاقتصاد والمجتمع.
وفي الصحة، تتحول الفجوة الطبقية إلى مسألة حياة أو موت. جودة وطول العمر المتوقع مرتبطان بشكل وثيق بالرمز البريدي للمنطقة التي يقيم فيها الفرد. الأحياء الغنية في تل أبيب والمراكز المدنية تحظى بأفضل المستشفيات والعيادات الخاصة، بينما تعاني البلدات النائية في النقب والتجمعات السكانية العربية واليهودية الفقيرة من نقص حاد في البنية التحتية الصحية، وطوابير انتظار طويلة، ونقص في الأطباء المتخصصين. هذا التفاوت في الرعاية الصحية تجلّى بوضوح خلال جائحة كوفيد-19، حيث كانت معدلات الإصابة والوفيات أعلى بشكل ملحوظ في المجتمعات الفقيرة والمهمشة.
غير أن هذه الفجوات ليست قدراً محتوماً أو نتيجة طبيعية للسوق الحرة، بل هي، في جوهرها، نتاج سياسات حكومية مُتعمَّدة وممنهجة. لقد تبنت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، بقيادة اليمين والقوى الدينية، نموذجاً اقتصادياً نيوليبرالياً متطرفاً يقوم على خصخصة الخدمات الأساسية مثل الصحة والتعليم والنقل، وتقليص الضرائب على الشركات والأثرياء، وإضعاف نقابات العمال. هذه السياسات أدت إلى إثراء الأقلية على حساب الأغلبية.
وفي قلب هذه المعادلة، يأتي أولوية التمويل للمشاريع الأيديولوجية على حساب الاحتياجات المدنية. فمستوطنات الضفة الغربية، التي تعتبر غير قانونية وفق القانون الدولي، تحظى بتمويل حكومي سخي، بما في ذلك الإعانات السكنية والبنية التحتية والاستثمارات الأمنية الهائلة. وبالمثل، يتم ضخ أموال عامة هائلة في مؤسسات التعليم الديني والحريدية، التي تخرج شباباً غير مندمج في سوق العمل الحديث، مما يخلق عبئاً اقتصادياً إضافياً على إسرائيل ويوسع من قاعدة الفقر فيها.
هذا التحالف بين الرأسمالية المتوحشة والقومية التوسعية والدينية المتطرفة يخلق دوامة تآكل ذاتية. فالفقر واليأس الناتجان عن التفاوت يغذيان الاحتقان الاجتماعي والانقسامات الإثنية، مما يُضعف التماسك الوطني ويجعل إسرائيل عاجزة عن تشكيل قصة مشتركة لجميع مواطنيها. بدلاً من ذلك، تتحول إلى مجموعة من "القبائل" المتنافسة على الموارد المحدودة والهوية والمستقبل.
الاستثناء الإسرائيلي إذاً، ليس في كونه ديمقراطية ليبرالية مزدهرة، بل في كونه مختبراً فريداً للربط بين المشروع الاستعماري الاستيطاني من جهة، والنموذج النيوليبرالي المتطرف من جهة أخرى. هذا المزيج ينتج عنه واحدة من أكثر المجتمعات تفاوتاً في العالم المتقدم. وهذا التفاوت هو العامل الذي يقوض من الداخل أسطورة "البيت القومي للشعب اليهودي"، لأنه يكشف أن هذا البيت له سقف من زجاج يحمى فقط من ينتمون إلى طبقة معينة وإثنية معينة ودين معين. عندما تفقد الدولة قدرتها على توفير العدالة الاجتماعية والفرص المتكافئة لمعظم مواطنيها، فإنها تفقد شرعيتها ومبرر وجودها. السؤال ليس (إذا) كانت هذه الفجوة ستدمر إسرائيل من الداخل، بل (متى) سيتجاوز التآكل الاجتماعي نقطة اللاعودة، محولاً إياها إلى كيان غارق في صراعاته الداخلية، عاجز عن مواجهة تحديات المستقبل، ومُجهَض المضمون الأخلاقي الذي ادعاه دائماً.