غزّة ضحيّة تواطؤ بين مشروعَين مستحيلَين!

 

 

 

 

ليست المأساة الإنسانيّة التي مسرحها قطاع غزّة في هذه الأيّام، سوى حصيلة فكر إلغائيّ إسرائيليّ من جهة، وما زرعته “حماس” التي جمعت بين فكرَي “الإخوان المسلمين” و”جبهة الممانعة” من جهة أخرى. جمعت “حماس” عمليّاً بين فكر “الإخوان”، بأسوأ ما فيه من تطرّف وخبث وعبثيّة سياسيّة، وبين المشروع التوسّعيّ الإيرانيّ الذي ركّز منذ قيامه على الاستحواذ على قضيّة فلسطين والمتاجرة بها إلى أبعد حدود المتاجرة. وضعت “حماس” نفسها منذ البداية في خدمة المشروع الإيرانيّ مع ما يعنيه من إلغاء للمشروع الوطنيّ الفلسطينيّ.

منذ احتلال إسرائيل لغزّة، التي كانت تحت الإدارة المصريّة لدى وقوع حرب عام 1967، والسؤال في الدولة العبريّة: ما العمل بالقطاع ذي المساحة الصغيرة والكثافة السكّانيّة الكبيرة؟

صار مثل هذا السؤال أكثر إلحاحاً في مرحلة ما بعد الانسحاب الإسرائيليّ من سيناء نتيجة توقيع معاهدة السلام المصريّة- الإسرائيليّة في آذار 1979، وتحوّل القطاع إلى أرض فلسطينيّة محتلّة كما حال الضفّة الغربيّة التي باتت تمتلك عمليّاً من يتكلّم باسمها. كان ذلك عبر وجود منظّمة التحرير الفلسطينيّة “الممثّل الشرعيّ الوحيد للفلسطينيّين” منذ قرار قمّة الرباط في عام 1974.

تمنّى غير مسؤول إسرائيليّ لو يبتلع البحر غزّة. اقترحت حكومات إسرائيليّة عدّة، بمن في ذلك حكومات كان أرييل شارون عضواً فيها، أن تكون غزّة “الدولة الفلسطينيّة” الموعودة. حصل ذلك خصوصاً بعدما قطع الأردن الطريق على أن يكون “الوطن البديل” عندما اتّخذ الملك حسين القرار التاريخيّ بفكّ الارتباط بين المملكة الهاشميّة والضفّة الغربيّة صيف عام 1988. ألحق العاهل الأردنيّ الراحل فكّ الارتباط باتّفاق السلام مع إسرائيل في تشرين الأوّل 1994، وهو اتّفاق رسّم الحدود بين الأردن وفلسطين من جهة، وبين المملكة الهاشميّة وإسرائيل من جهة أخرى.

من المفيد في كلّ وقت ملاحظة أنّ الأردن لم يوقّع اتّفاقاً مع إسرائيل إلّا بعدما ضمن حقوقه في الأرض والمياه… وبعد توقيع اتّفاق أوسلو بين ياسر عرفات وإسحق رابين في حديقة البيت الأبيض. عرف الملك حسين، بعقله الاستراتيجيّ، كيف يتحيّن فرصة أوسلو ووجود إسحق في موقع رئيس الوزراء الإسرائيليّ كي يعزّز موقع الأردن إقليميّاً ويطوي صفحة مشروع  “الوطن البديل”، الذي رفعه اليمين الإسرائيليّ الذي سعى دائماً، خصوصاً منذ توقيع اتّفاق أوسلو، إلى إجهاض المشروع الوطنيّ الفلسطيني الذي في أساسه حلّ الدولتين.

لعلّ أهمّ ما في اتّفاق أوسلو الذي مكّن ياسر عرفات، الزعيم التاريخيّ للشعب الفلسطيني، من العودة إلى أرض فلسطين ورؤية القدس ولو من بعيد، تضمُّنه فكرة “غزّة وأريحا أوّلاً”. ليس صدفة أنّ “أبو عمّار” قرّر العودة إلى فلسطين عن طريق غزّة التي دخلها برّاً آتياً من الأراضي المصريّة. وليس صدفة إصراره على الربط بين غزّة والضفّة الغربيّة.

ما ليس صدفة أيضاً إصرار “حماس” منذ توقيع اتّفاق أوسلو على إفشاله. لعبت العمليّات الانتحاريّة التي نفّذتها على إحداث تغيير عميق داخل المجتمع الإسرائيليّ ودفعه في اتّجاه أن يكون أكثر يمينيّة… وصولاً إلى قيام الحكومة الحاليّة لبنيامين نتنياهو، التي تعكس الحالة المرضيّة التي بات يعاني منها هذا المجتمع.

من “غزّة وأريحا أوّلاً”، صارت غزّة في منتصف عام 2007 “إمارة إسلاميّة” على الطريقة الطالبانيّة تحكمها “حماس”. بين التاريخَين توجد محطّات عدّة من الضروريّ التوقّف عندها. أولى هذه المحطّات كانت افتتاح مطار غزّة الدوليّ في 24 تشرين الثاني 1994 وترتيبات للعبور إلى مصر عن طريق أريحا بإشراف مراقبين أوروبيّين.

أتى الرئيس بيل كلينتون إلى غزّة في مناسبة افتتاح المطار وألقى خطاباً في المجلس التشريعي الفلسطيني، من منطلق أنّ غزّة كانت الأمل بمستقبل آخر مختلف للفلسطينيّين. كانت المحطّة الثانية المهمّة الانسحاب الإسرائيلي الكامل من غزّة في آب 2005  تنفيذاً لقرار اتّخذته حكومة برئاسة أرييل شارون!

انتقلت غزّة في ظلّ “حماس” وتقاعس سلطة وطنيّة مترهّلة على رأسها محمود عبّاس (أبو مازن) من عنوان للأمل… إلى مأساة يوميّة. لم يتردّد اليمين الإسرائيليّ الذي كان يحلم في الماضي بزوال غزّة من الوجود في الانتقال إلى مرحلة استغلال “طوفان الأقصى” وما فعلته “حماس” يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأوّل 2023، إلى محاولة إزالة القضيّة الفلسطينيّة من الوجود.

يختزل مأساةَ غزّة صدامٌ بين مشروعَين مستحيلَين، هما مشروع “حماس” الذي نادى بفلسطين “وقفاً إسلاميّاً من البحر إلى النهر” وبين مشروع اليمين الإسرائيليّ الذي يرفض الاعتراف بوجود شعب فلسطينيّ موجود على أرض فلسطين. هناك ما بين سبعة وثمانية ملايين فلسطينيّ على أرض فلسطين التاريخيّة، داخل إسرائيل نفسها وفي الضفّة الغربيّة والقدس… وغزّة. هل في الإمكان تذويب هؤلاء؟

ستستمرّ حرب غزّة. لن تتوقّف إلّا في اليوم الذي لا يعود فيه ذلك التواطؤ القائم بين مشروعَين مستحيلَين. لم تستفِق حكومة بنيامين نتنياهو على خطورة “حماس” إلّا بعد “طوفان الأقصى” ومقتل نحو 1,200 يهوديّ كانوا في مستوطنات غلاف غزّة. قبل ذلك، كانت المساعدات الماليّة تأتي إلى “حماس” عن طريق مطار بن غوريون في تل أبيب. كانت “حماس” ضمانة لتكريس الانقسام الفلسطينيّ… كما كانت ضمانة لإفشال المشروع الوطنيّ الفلسطينيّ الذي أقرّه المجلس الوطنيّ الفلسطينيّ في تشرين الثاني 1988 لدى انعقاده في الجزائر.

بين اليمين الإسرائيليّ و”حماس”، تحوّلت غزّة إلى ضحيّة صدام بين فكرَين متطرّفَين حصل التقاء بينهما في مرحلة معيّنة. كانت غزّة التي يوجد غاز في بحرها نقطة انطلاق لعودة الأمل. هل يمكن أن تعود إلى ذلك يوماً؟ يمكن أن تعود في حال الغياب التامّ لـ”حماس” عسكريّاً وسياسيّاً… وفي حال اكتشفت إسرائيل أن لا مفرّ من العودة إلى السياسة وأنّ كلّ قنابل العالم لا تستطيع إلغاء الشعب الفلسطيني من الوجود!

 

 

 

 

Loading...