
كمثيلاتها من الاتفاقيات السابقة، اتفاقية سايكس بيكو على سبيل المثال، خَدَعَنَا الغرب مرّة أخرى حول ما تم تسميته باتفاقية السلام في غزة (أكتوبر 2025)، التي أحتُفل بها في شرم الشيخ بدون أن يدخل وقف إطلاق النار حيز التنفيذ على أرض الواقع… ودون التعريف بأي ضمانات لتنفيذها، وخصوصاً أننا أمام اتفاقية فيها الجاني هو القاضي.
تم تعريف اتفاقية السلام المزعومة بخطوط عامة لا تفاصيل لها “والشيطان يكمن في التفاصيل دائماً”، بل تُغَطِيها ضبابية تدعو للتكهن والشك، فلم تعلن عبر المصادر الإخبارية الدولية الموثوقة، أو في المواقع الرسمية للأطراف، أو في بيانات معنية بالحدث عادة تصدرها المنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة، وكل ما نسمعه عنها ما هو إلا تكهنات محللين واعلاميين يحاولون ركوب الموجة كما هو الحال مع كل الاحداث التي تمر على المنطقة.
بعد مرور أكثر من اسبوعين على اعلان خبر اتفاقية انهاء الحرب في غزة، يبدو المشهد أقرب إلى مسرحية أمريكية- إسرائيلية جديدة، دخلها العرب وهم يصفقون ويهلهلون لنجاة من تبقى من شعب غزة، بعد عامين من حرب الإبادة، دون التعرف على تفاصيل وحقيقة الاتفاقية… والحرب لازالت قائمة.
كان “انتهاء الحرب في غزة” عنوان الفصل الأول من المسرحية، الذي انتهى مع اسدال الستارة على اجتماع شرم الشيخ والحرب مستمرة… أثار هذا الفصل المسرحي المزيد من الشكوك في تفاصيل الاتفاقية الذي تأكد إن عدم الإفصاح عنها هو لتجنب إثارة الجدل، سواء في بنود مدة التهدئة، أي فترة وقف إطلاق النار (مؤقت أم دائم أم غير ذلك)؛ أو في بنود الحصار وفتح المعابر لدخول المساعدات الإنسانية؛ أو في بنود إعادة الإعمار التي أعلن نائب الرئيس الأمريكي في مرحلة سابقة بأن “دول الخليج ستتحمل مسؤولية دفع تكاليفها” دون أن يعلن إن كان الإعمار يعني بناء “ريفييرا ترامب” أو بناء مساكن لمن بقي على قيد الحياة من شعب غزة؛ أو في بنود الانسحابات العسكرية؛ أو مَن سيحكم غزة بعد انسحاب حماس من القطاع، وهو الأمر الأكثر غموضاً، حيث لم يتم الكشف عن أي تفصيل حوله سوى إن توني بلير “سيء السمعة”، في المنطقة العربية، سيكون أحدهم.
وهكذا يتأكد إن تفاصيل الاتفاقية مثيرة لعدم الثقة، بدءً بإعلان وقف اطلاق النار (دون أن يتوقف)، وهو العنصر “الأكثر فرحاً” لإشغال الرأي العام العالمي والعربي والفلسطيني به، حتى يتسنى تمرير باقي بنود (فصول) الاتفاقية (المسرحية)، بتكتيك التدرج في الصدمات، لامتصاص الغضب.
الدبلوماسية الذكية مع ضغوط الإبادة
إن عدم الإعلان عن تفاصيل اتفاقية وقف الحرب ليس بالضرورة مؤشرًا على فشل المفاوضات، بل هو غالبًا جزء من استراتيجية دبلوماسية ذكية يمارسها الطرف الأقوى، لتمرير مشاريع كبرى بعد نجاح ضغط الإبادة الوحشية الذي يجعل الطرف الآخر يقبل بأقل القليل، أو بلا شيئ مقابل ايام من سكوت المدافع فقط؛ هي دبلوماسية بناء أرضية لإعلان تفاصيل مثيرة لعدم الثقة ولمشاريع أكثر ظلماً وقسوة من الإبادة.
يبدو إن التاريخ يعيد نفسه مع هذه الاتفاقية، حيث نخوض أحداثاً عاشتها المنطقة لمرات عديدة، حروب غير متكافئة القوة، ومفاوضات غير متكافئة الأطراف، وقرارات تحت ضغط أقسى الحروب دموية ووحشية؛ استغفال الطرف القوي للطرف الأضعف، والمفكك في مواقفه ومصالحه، لنستيقظ في اليوم التالي على واقع أكثر إيلاماً وظلماً، ليس أقل من ظلم حرب السنتين، التي تم وصفها بأقسى حرب إبادة وقعت في التاريخ، دون أي رادع عربي أو إقليمي أو دولي…
إن عدم صدور بيانات رسمية من الأطراف المعنية أو الوسائل الإعلامية الكبرى بعد اجتماع شرم الشيخ هو في حد ذاته رسالة ومؤشر قوي يمكن تفسيره بعدة عوامل متشابكة منها: الفشل في التوصل إلى أي اتفاق يُنصف الشعب الفلسطيني؛ أو وجود هوة غير قابلة للجسر بين الأطراف؛ أو ممارسة تكتيك التفاوض والضغط بالصمت.
وعلى أرض الواقع هذا يعني إما استمرار الحرب (وهو ما يحصل في غزة فعلياً)، أو دخول الصراع مرحلة من الجمود حيث لا انتصار عسكري حاسم ولا اتفاق سياسي حاسم، وحيث أن دبلوماسية الصمت يعد موقف، وليس حيادًا؛ وفي هذه الحالة يشير الصمت الرسمي الشامل إلى عدم التوصل إلى اتفاق منصف وعادل وقادر على الصمود، وإن الأمر كله كان ضمن مخاضات وترقب حصول الرئيس ترامب على جائزة نوبل للسلام، والقادم لن يكون عادلاً.
وهنا نتساءل: لماذا هذا الاهتمام، الاسرائيلي الغربي، المبالغ فيه بقطاع غزة؟ ما الذي يُخطط للقطاع؟ مع تعدد المشاريع التي تم طرحها، من إدارة الرئيس جو بايدن، وإدارة نتنياهو، وإدارة الرئيس ترامب؟ وهذا ما يجب مناقشته بشيئ من الإسهاب، بما هو متوفر من معلومات.
يذكر المفكر الإقتصادي الدكتور محمود المسافر “إن أحداث التاريخ علمتنا بإن الأساطيل تتحرك من قواعدها وحروب الإبادة والصراعات الكبرى تتصاعد في منطقتنا فقط بهدف السيطرة على موارد اقتصادية كبرى، وحرب غزة غير مستثناة من هذا”… وعلى هذه القاعدة سنحاول قراءة حرب الإبادة على غزة، وما يصاحبها من تعتيم إعلامي شامل على أهدافها الحقيقية… ولطالما كانت ثرواتنا الاقتصادية هدفاً مباشراً لجميع انواع الاستعمارات والحروب والصراعات التي عاشتها المنطقة… إذن فلنبحث عن الثروات في أهداف الحرب على غزة للرد على تساؤلاتنا المشروعة، ولا نتوقع أبداً أن تكشف إسرائيل عن هدف كهذا، بل كان حق الدفاع عن النفس هو الهدف الذي كان معداً سلفاً، لكسب الرأي العام، وهذا ما تمسّك به الإعلام الغربي طوال السنتين المنصرمتين، فأين تكمن الحقيقة؟.
سأوجز الرد على هذا السؤال بالإشارة إلى مقال سابق نشرته على صفحات أخبار الخليج بتاريخ 20 أبريل 2024 بعنوان “غزة وثرواتها النفطية في مشروع الشرق الأوسط الجديد”، مشيرة إلى ما جاء في دراسة قدمتها منظمة أونكتاد UNCTAD التابعة للأمم المتحدة في عام 2019 حول ما تملكه غزة من ثروات طبيعية، وإن الهدف الرئيسي من الدراسة يتمثل في “تحديد واقتراح خطوط عريضة أولية لتقدير حجم الخسارة الاقتصادية التي يتكبدها الشعب الفلسطيني بسبب حرمانه من حقه الطبيعي في تطوير موارده الطبيعية واستغلالها، ويشتمل هذا الحق على ما هو أكثر من النفط والغاز الطبيعي حيث يشمل جميع الموارد الطبيعية والاقتصادية”، وقد “شرَعت إسرائيل بالفعل في استغلالها لمنفعتها الخاصة حصراً، رغم إن هذه الموارد تكون مشتركة في العادة”… وترجع الدراسة إلى تأكيدات لعلماء جيولوجيون واقتصاديون مختصون في الموارد لتشير إلى إن “الأرض الفلسطينية تقع فوق احتياطيات شاسعة من ثروات النفط والغاز”، وإن إسرائيل “ما فتئت تسيطر على معظم الموارد الطبيعية العائدة للفلسطينيين وتتحكم في تطويرها منذ عام 1967″، ومع الحقائق التي أوردتها الدراسة بالأرقام والبحوث حول الموارد الطبيعية الفلسطينية الكامنة تحت أرض وبحر غزة، بل في حوض الشام، من طرطوس إلى غزة، يمكننا أن نؤكد بأن حرب الإبادة هذه هدفها الرئيسي هو احتلال غزة واستغلال موارد الطاقة الفلسطينية ودخول اسرائيل نادي الدول النفطية.
كما كانت الثروات الطبيعية والاستراتيجية وراء احتلال العراق وتدميره، فإن نفس الثروات وراء الحرب على غزة… لذلك يتم رسم السيناريو القادم في غزة على قاعدة الثروات أيضاً؛ والتي تشير إلى إن إعلان انهاء الحرب في اتفاقية مبهمة بدون أي تفاصيل، له علاقة مباشرة بعمليات تجري باتجاه احتلال غزة وتغيير الخريطة التي وعد بها نتنياهو… خريطة ستظهر فيها “ريفييرا ترامب” ومدن وموانئ حديثة وجاهزة لاستثمار الثروات… وفي بنود الاتفاقية المبهمة تكمن التفاصيل، على أن يتم الإعلان عنها بأذكى أسلوب إعلامي وسيكولوجي يضمن تحييد دور أصحاب الأرض الأصليين، بعد حرب دامية طويلة أدمت كل فرد فيهم، جسدياً وروحياً وذهنياً… حرب الصراع على الثروات.