
في الأسابيع الأخيرة، أخذت التحليلات الصادرة عن معارضين إسرائيليين ومحللين من داخل المؤسسة الأمنية والسياسية في إسرائيل تتحدث بنبرة غير مسبوقة عن “الهيمنة الأمريكية” على القرار الإسرائيلي، خصوصاً في ما يتعلق بالحرب على غزة. وتكررت العبارات التي تقول إن إسرائيل باتت “ولاية أمريكية”، أو “تابعة” لواشنطن في كل خطوة تتخذها، بعد أن صار تدخل الإدارة الأمريكية في تفاصيل القرار العسكري والسياسي الإسرائيلي في ما يتعلق بالحرب في غزة علنياً ومباشراً إلى حدّ غير مسبوق.
لكن في المقابل، يعبّر كثيرون في العالم العربي، وخاصة في الساحة الفلسطينية، عن نوع من “الابتهاج الرغبوي” تجاه هذا المشهد، إذ يرى البعض أن فرض الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مواقف محددة على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وإجباره على القبول بخطة وقف إطلاق النار في غزة، هو مؤشر على ضعف إسرائيل، بل وبداية نهايتها كقوة مهيمنة في المنطقة. وعلى شبكات التواصل الاجتماعي، انتشرت التعليقات الساخرة التي تصور نتنياهو كحاكم ولاية أمريكية يتلقى التعليمات من البيت الأبيض.
غير أن هذه القراءة، وإن كانت تُرضي الحس الشعبي المتعطش لرؤية إسرائيل في موقع الضعف، فإنها تتجاهل المعنى الحقيقي لما يجري: فالتدخل الأمريكي العميق ليس انتقاصاً من “السيادة الإسرائيلية” بالمعنى المتداول، بل هو تدخل من “المالك الفعلي” في إدارة ممتلكاته الاستراتيجية. فالولايات المتحدة لا تتعامل مع إسرائيل كحليف “مستقل”، بل كجزء من منظومتها الأمنية والسياسية في الشرق الأوسط، وكقلعة متقدمة أو “حاملة طائرات” تدافع عن مصالحها، وتُنفذ سياساتها في الإقليم.
فمنذ نشوء الدولة العبرية، لم تكن العلاقة بين واشنطن وتل أبيب علاقة مساواة، بل علاقة تأسست على مفهوم “الوظيفة”: إسرائيل هي الأداة الأمريكية في الشرق الأوسط، تُستخدم لضمان التفوق العسكري الغربي، وردع القوى الإقليمية المناوئة، ومنع أي مشروع عربي أو إسلامي من امتلاك أدوات القوة الاستراتيجية. لكن في السنوات الأخيرة، ومع تصاعد نفوذ اليمين المتطرف في إسرائيل، وانجراف نتنياهو نحو سياسات مغامِرة غير محسوبة، بدأت واشنطن ترى في هذا الحليف “الوظيفي” عبئاً يهدد مصالحها بدل أن يخدمها.
لذلك، لم يكن فرض ترامب خطته لوقف الحرب في غزة في أكتوبر 2025 تدخلاً في “شؤون إسرائيل الداخلية”، كما يصوره اليمين الإسرائيل لجمهوره، بل كان إنقاذاً لإسرائيل من نفسها، ومن السياسة الانتحارية التي يقودها رئيس وزرائها، والتي جعلتها تواجه عزلة دولية غير مسبوقة. فالإدارة الأمريكية تدرك أن استمرار الحرب، والتوسع في العمليات العسكرية، يفاقمان من مأزق إسرائيل الأخلاقي والسياسي، ويزيدان من غضب الشارع العالمي، بل ويهددان بإشعال مواجهات أوسع في المنطقة، ما يعني توريط الولايات المتحدة في صراع مفتوح لا يخدم مصالحها.
إن تدخل واشنطن الحاسم لوقف التصعيد، وللحد من اندفاع نتنياهو، هو في جوهره دفاع عن إسرائيل من الانهيار الذاتي، وليس تقويضاً لاستقلالها. فالإدارة الأمريكية تنظر إلى إسرائيل باعتبارها ركيزة رئيسية في منظومتها الاستراتيجية، لكنها ترى أن “ركيزتها” هذه قد بدأت تميل بفعل سياسات نتنياهو الداخلية والخارجية، التي جعلت من إسرائيل دولة منبوذة في الغرب والعالم، ومعزولة في المحافل الدولية، ومرفوضة من جزء متزايد من الرأي العام الأمريكي نفسه، وخصوصاً داخل الجامعات ووسائل الإعلام والمؤسسات التقدمية.
تدرك واشنطن أن استمرار هذه العزلة سيسحب من إسرائيل أهم عناصر قوتها، وهي شرعية الدعم الأمريكي غير المشروط، ولهذا تعمل على “لجم نتنياهو” وإجباره على التراجع خطوة إلى الوراء. فالولايات المتحدة تريد حماية إسرائيل من التورط في حرب استنزاف طويلة الأمد، وتريد في الوقت ذاته إعادة ترميم صورتها عالميا وإقليميا، تمهيداً لتنفيذ استراتيجيتها الأوسع لإعادة الاصطفافات والتحالفات الإقليمية.
في هذا السياق، يبدو واضحاً أن واشنطن لا تتعامل مع الملف الإسرائيلي – الفلسطيني كقضية إنسانية أو سياسية معزولة، بل كجزء من لوحة كبرى تشمل التنافس مع الصين اقتصادياً، ومواجهة التحالف الروسي – الصيني – الإيراني الذي يتعزز في المنطقة. ومن وجهة النظر الأمريكية، فإن مغامرات نتنياهو تُضعف هذه الاستراتيجية لأنها تدفع الحلفاء العرب المعتدلين إلى التردد في التعاون، وتزيد من نفوذ طهران وموسكو وبكين في الشرق الأوسط. ولذلك فإن خطة ترامب لوقف الحرب لم تكن مجرد “وساطة”، بل جزء من عملية أوسع لإعادة هندسة المشهد الإقليمي بما يتناسب مع المصالح الأمريكية العليا.
على الأرض، تجلت هذه الهيمنة الأمريكية في صور عديدة: من تقييد حركة الجيش الإسرائيلي، وفرض قيود على نوعية الأسلحة المستخدمة في غزة، إلى منع أي توسع في العمليات البرية، والضغط لفتح المعابر أمام المساعدات الإنسانية. وقد وصلت الأمور إلى درجة أن بعض قادة الجيش الإسرائيلي باتوا يصرحون علناً بأن واشنطن “تعطل” العمليات العسكرية، في حين يرى آخرون أن ذلك “ينقذ إسرائيل من أخطاء قاتله”. أما المعارضة الإسرائيلية، التي تتألف من قوى الوسط ويسار الوسط ، فتجد في هذا التدخل الأمريكي فرصة لإضعاف نتنياهو داخلياً، وتتهمه بأنه حول إسرائيل إلى “تابع” مطيع لترامب، بعدما فقدت حكومته القدرة على اتخاذ قرارات مستقلة.
لكن القراءة الأعمق تكشف أن ما يجري ليس تبعية بقدر ما هو عودة إلى “الطبيعة الأصلية” للعلاقة بين الطرفين. فالولايات المتحدة كانت، وستبقى، صاحبة القرار النهائي في كل ما يتعلق بإسرائيل، لأنها ببساطة تعتبرها جزءاً من أمنها القومي.
أما في العالم العربي، فإن كثيرين يقرؤون هذا المشهد من منظور رغائبي، يرون فيه بداية أفول المشروع الصهيوني، غير مدركين أن واشنطن حين تضغط على نتنياهو، فإنها لا تفعل ذلك حباً في الفلسطينيين أو رغبة في العدالة، بل حفاظاً على توازن المنظومة التي تضمن بقاء إسرائيل قوية ولكن منضبطة، وفاعلة ولكن ضمن حدود مرسومة أمريكياً. فالولايات المتحدة لا تريد انهيار إسرائيل، بل تريد إعادة توجيهها كي تظل تؤدي وظيفتها الاستراتيجية بفاعلية.
في النهاية، يمكن القول إن ما تشهده الساحة الإسرائيلية ليس صراعاً بين “استقلال ووصاية”، بل بين “عقل أمريكي” يسعى إلى ضبط إيقاع حليفه وحمايته من الانتحار السياسي، وقيادة إسرائيلية مهووسة بالبقاء السياسي والشخصي لنتنياهو حتى لو كان الثمن هو دمار الدولة ومكانتها. لذلك، فإن ما يبدو اليوم “هيمنة أمريكية” هو في الحقيقة الوجه الواقعي للعلاقة منذ نشأتها، أما الجديد فهو أن هذه الهيمنة باتت تُمارس علناً، وأن واشنطن لم تعد تخفي يدها الثقيلة في توجيه قرارات تل أبيب.
بذلك، لا يمكن القول إن إسرائيل “تخضع” للولايات المتحدة بقدر ما هي “تعيش داخلها”، جزء من منظومتها السياسية والعسكرية والاقتصادية، لكن قرارها النهائي بما يتعلق بالشرق الأوسط يُصاغ في واشنطن لا في القدس. هذه هي الحقيقة التي يدركها الأمريكيون والإسرائيليون على حد سواء، وإن اختلفت اللغة التي يستخدمها كل طرف لوصفها.