الأزمات لم تعد في أيدينا، ولا حلها!!

 

 

 

في لعبة الأمم باتت الصراعات على التشكيلات الجيوسياسية أسرع وأعنف في العالم، وباتت التوازنات النووية هي التي تحكم العلاقات بين القوى العظمى، ولم يعد خفياً أن أمريكا تخوض مع الصين حرباً باردة في أصقاع الأرض، ونعلم أن لعبة الحرب ستسمر حتى ينتصر طرف ويرسم معادلة جديدة للعالم، الشرق الأوسط الكبير الذي كان تاريخياً مسرحاً للصراعات الاقليمية والدولية سيظل في حالة فوضى رهين أزماته إلى أن يتبلور الشكل الجديد للنظام العالمي وأي تسويات أو حلول هي عملانية آنية وليست استراتيجية، "والأزمات لم تعد في أيدينا ولا حلها"!!، تدور السياسة الأمريكية في منطقتنا بإطار رؤية برنارد لويس حول اعادة هيكلة وتطوير نسخة سايكس بيكو عام 1916 التي تسمح لهم بنهب النفط والغاز والثروات العربية، اذن كل ما يحدث في العالم العربي من تدمير وتفتيت ومشاريع انفصال وتقسيم هو تدبير المشروع الصهيوأمريكي ولمصلحته، فالعرب يتقهقرون وإسرائيل تتقدم نحو الحلم "إسرائيل الكبرى"، الآن نحن أمام مشهد سوداني مظلم ومؤلم وأمام جرائم ابادة جماعية آلاف الضحايا يسقطون يومياً، الصراع سوداني-سوداني وضع السودان على مفترق الانهيار الشامل والدخول في متاهة لا يمكن التنبؤ بعمقها ولا احتمالات الخروج منها وهل هناك مشهد أشد هولاً من الصراع العربي-العربي مع غياب رؤية عربية موحدة للتعامل مع الاحتمالات التي ستواجهها، لا نعلم إلى أين نتجه، ربما إلى الجحيم الذي وعدنا به ترمب!!.

السودان بات ضحية تداعيات التراجع الأمريكي في العالم وحلبة من حلبات الصراع الجيوسياسي والجيواستراتيجي حول ثروات المنطقة، ومن سوء حظه جغرافيته بموقعه الافريقي المتميز الذي يربط بين أوروبا ومنطقة البحر الأحمر وأواسط افريقيا وهي مسألة فائق الحساسية على المستوى الاستراتيجي يتاخم برياً عشر دول افريقية، ويقابله بحرياً دولاً محورية ونفطية مصر السعودية، السودان غني بثرواته من المعادن الثمينة من ماس ويورانيوم وكروم وغيرها ويعتبر ثالث منتج للذهب في إفريقيا فضلاً عن الثروات الزراعية والحيوانية، تفجر الصراع على السلطة والنفوذ وحلت عليه "لعنة العسكر" جنرالات تنفذ الأجندات الخارجية فبدأت بحرب أهلية ظاهرياً تخفي حرباً بالوكالة بين دول اقليمية ودولية تسعى لتعزيز نفودها في المنطقة، فإذا به على حافة الجرزمة والجوع.

تتواصل الأحداث الدموية وإسرائيل غائبة عن أحداث السودان الحالية فلا يعني ذلك عدم وجود بصماتها التي لا يمكن اخفاء أثرها وقوتها وخصوصاً أن ما يجري أدى إلى وضع لم تكن إسرائيل تحلم بما هو أفضل منه إشغال مصر واستنزاف جيشها، الاستراتيجية الإسرائيلية تعتبر دول حوض نهر النيل في إفريقيا ضرورة ومهمة للأمن القومي الإسرائيلي وهذا سبب العلاقة المتينة بين اثيوبيا وإسرائيل، أما علاقة إسرائيل بالسودان بدأت "بعد أن كان من ألد خصومها" في ثمانينيات القرن الماضي بعهد جعفر النميري الذي تورط بعملية هجرة اليهود الاثيوبيين "الفلاشة" إلى إسرائيل عبر السودان، واستمرت مع جنرالات الصراع عبد الفتاح البرهاني وعبد الحميد دقلو، تفكيك السودان كان هاجساً لإسرائيل التي دربت الانفصاليين وسلحتهم وصولاً إلى الاستقلال عام 2011، مازالت إسرائيل في حروب مستمرة في المنطقة والتقسيم السوداني هدف إسرائيل لتهديد مصر من بعدها الإفريقي واشعال حدودها، إسرائيل تنظر إلى مصر من خلال قدراتها العسكرية جيشها الأقوى عربياً وحاجز لا يمكن تجاوزه بسهولة وهو أحد أهداف المشروع الصهيوني القادم الهدف الأكبر والأصعب، الفرصة الآن باتت مهيأة فهل هذا هو السيناريو لتفتيت الجيش المصري ألا يعيد راهناً وصية بن غوريون  تفتيت ثلاث جيوش عربية العراقي والسوري والمصري؟؟  

الأزمة في السودان تتخذ أبعاداً متسارعة تزيد المخاطر وتجعل مصر بمواجهة تحديات قاسية ومفتوحة على تطورات وسيناريوهات حرجة رغم المساعي المبذولة لإنهاء هذا الصراع المسلح، تقدم قوات الدعم السريع تجاه نهر النيل وقيادة التمرد ضد الحكومة المركزية السودانية محاولة لفصل السودان مرة أخرى بعد أخر تقسيم للجنوب، قوات الدعم سيطرت على  مدينة الفاشر أخر معاقل الجيش السوداني في دارفور بالتالي سيطرة كاملة على الاقليم الذي تمرد عام 2003، ليقود دقلو التمرد بنفسه بعد أن قضى عليه قبل سنوات ويسيطر على الاقليم المهم جداً كثروة حيوية وغناً بالذهب ما يقارب نص موارد السودان منه، قوات الدعم السريع هو جهاز أمني انشأه الرئيس السابق عمر البشير كفرع من جهاز الأمن والمخابرات السوداني وشرعه وفق قانون أجازه المجلس الوطني عام 2017 الهدف المعلن عنه هو حفظ الأمن واستقرار البلاد وضبط الحدود ومواجهة الجريمة المنظمة، عمودها الأساسي الميليشيات الشهيرة باسم الجنجويد التي شاركت في قمع المتمردين في دارفور واتهمت بارتكاب جرائم ضد الانسانية وجرائم ابادة جماعية، والهدف الحقيقي هو حماية البشير من انقلاب الجيش كما فعل هو بمن سبقه وقد أثبتت ولائها له أثناء صراعه مع المتمردين في دارفور واختار محمد حمدان دقلو ليكون رئيساً للجهاز الجديد وكان يصفه عمر البشير بحمايتي لشدة ثقته به ثم انقلب عليه واسقطه، دقلو حاصل على تعليم متوسط عمل ببداية حياته في تجارة الابل والجمال ثم أنشأ جماعة لحماية القوافل التجارية في المناطق المنفلتة السودانية أو المناطق المجاورة ثم انضم إلى ميليشيات الجنجويد، سلمه البشير رتب عسكرية من رتبة ملازم إلى أن قرر أن يعطيه رتبة فريق في 2017 بالإضافة إلى أنه قائد لقوات الدعم السريع كان له مطلق الحرية في السيطرة على مناجم الذهب في دارفور.        

والآن يحاول دقلو بتعاون مع حلفائه لتقسيم جديد ليصبح الجنوب وجنوب الجنوب بتشكيل حكومة مستقلة وجيش، منطقة توتر أمني كبير وهذا يشير إلى أبعد من حرب أهلية أو غنائم لا يؤثر على السودان فحسب بل على الدول المجاورة له، اذا تكرست سيطرة قوات الدعم على المثلث الحدودي بين مصر وليبيا والسودان ستكون هذه الدول أمام كارثة على المستوى الأمني والمستوى السياسي، السودان هي العمق الاستراتيجي لمصر والخاصرة الرخوة لها، مصر أخر القلاع المتبقية على حدود إسرائيل بعد القضاء على الجيش العراقي والجيش السوري، ستكون مهددة في أمنها القومي وأمنها المائي والذي 60% منه تحت سيطرة اثيوبيا و30% سيكون تحت سيطر دقلو في السودان وإسرائيل التي تنتظر إضعاف الجيش المصري ستهدده من الجنوب اثيوبيا والسودان ومن الغرب ليبيا وما ادراك ما ليبيا!!، ليشغل جيشها عن معاركه الحقيقية بدل أن يكون التسليح الكبير موجهاً إلى إسرائيل يتم توجيهه إلى السودان وليبيا وتغرق مصر في المستنقع الافريقي وملف اللاجئين، فهل بدأت مصر تستعد لتلك المواجهة؟؟ ونبقى رهن أزمات لم تعد في أيدينا، ولا حلها!!

 

 

 

 

كلمات مفتاحية::
Loading...