
مع وضوح خطة ترمب المفخخة لغزة ومن ثم توقيعها باتجاه الضفة الغربية، لم يعد الوجود العسكري الإسرائيلي في المنطقة وتحديدا في قبرص واليونان مجرد تعاون أمني أو مناورات عابرة، بل تحول إلى سياسة تموضع استراتيجي تستهدف إعادة رسم خريطة النفوذ في شرق المتوسط وفق ما أقره الكونغرس الأمريكي قبل سنوات عبر الجمع بين القوة العسكرية ومشاريع الطاقة العابرة للحدود. هذا اضافة الى الاستثمارات العقارية المتنامية والتي ستفوق قيمتها مليار دولار العام القادم باليونان لوحدها، اضافة الى برامج التجسس السيبراني وما رافقه من فضائح مؤخراً لعدد من المسؤولين اليونان بالتعاون مع اجهزة الاحتلال الإسرائيلي.
ففي السنوات الأخيرة، تسارعت خطوات إسرائيل لإحكام قبضتها على مفاصل الجغرافيا السياسية في المنطقة، مستخدمة تحالفاتها مع أثينا ونيقوسيا كمنصتين للتغلغل الأمني والاستخباراتي والاقتصادي، ومع تركيا كعضو في حلف "الناتو" عبر العلاقات الغامضة وغير المعلنة في آن واحد برعاية الولايات المتحدة التي تحتفظ بقواعد عسكرية ضخمة على الأراضي التركية واليونانية على حد سواء.
ففي قبرص، تمّ مؤخراً نشر منظومات للدفاع الجوي الإسرائيلية في قاعدة مدينة بافوس كما تم سابقا في قاعدة سودا اليونانية، تحت عنوان التعاون الدفاعي ومكافحة التهديدات الإقليمية. لكن هذا الانتشار، في حقيقته، يمنح إسرائيل قدرة متقدمة على مراقبة المجال الجوي والبحري الممتد من السواحل التركية شمالاً حتى عمق المشرق العربي شرقاً، ويحول الجزيرة إلى مركز مراقبة وتحكم متقدم يخدم مصالح إسرائيل في أي مواجهة مستقبلية محتملة، وذلك الى جانب الاتفاقيات الأمريكية اليونانية والإسرائيلية غير المسبوقة في تاريخ البلدين.
وفي الوقت ذاته، توسعت التدريبات والمناورات الجوية والبحرية المشتركة بين إسرائيل واليونان بمشاركة دول اقليمية اخرى، خاصة في "بحر إيجة" بما يمنح الجيش الإسرائيلي حرية حركة واسعة في ظل التوتر المستمر بين أنقرة وأثينا. فإسرائيل تمارس لعبة دقيقة على التناقضات التركية – اليونانية، إذ تطمئن كلا الطرفين وتستفيد من عدائهما المتبادل، لتفرض نفسها طرفاً ثالثاً لا غنى عنه في معادلات الأمن والطاقة وترسيم الحدود البحرية في شرق المتوسط.
لكن المسألة لا تتوقف عند حدود الأمن والدفاع، بل تمتد إلى مجال الطاقة وخطوط الغاز والكهرباء الممتدة من إسرائيل إلى أوروبا مروراً بقبرص والجزر اليونانية. هذه المشاريع تُطرح كجسور تعاون إقليمي بدعم أمريكي، لكنها في الواقع تمثل تجاوزاً فاضحاً لقانون أعالي البحار الدولي واعتداءً على الحقوق السيادية لدولة فلسطين في مياهها الإقليمية كما وفي لبنان ومناطقها الاقتصادية الخالصة بما ينتهك المعاهدات الدولية. فإسرائيل، التي لا تعتبر طرفاً موقعاً على هذه الاتفاقية التابعة للأمم المتحدة كما الولايات المتحدة وتركيا، تحاول من خلال هذه المشاريع تكريس واقع جديد يجعل من الاحتلال الاستعماري أداة اقتصادية إلى جانب كونه أداة عسكرية وأمنية، بدعم مباشر من الولايات المتحدة وعدد من دول الاتحاد الأوروبي الذي يمول اجزاء من تلك المشاريع.
ولعل ما يُضفي بُعداً أعمق على هذا التمدد هو ارتباطه غير المعلن بالرؤية الصهيونية التوراتية لما يُسمى بـ“إسرائيل الكبرى”، وهي رؤية جغرافية – عقائدية طالما جرى توظيفها لتبرير التوسع الاسرائيلي خارج حدود فلسطين التاريخية. فبعض الخرائط والمخططات التي رُوجت في الأوساط الدينية والسياسية الصهيونية منذ عقود، تُظهر جزيرة قبرص ضمن المجال الحيوي أو “النطاق الأمني المُقدس” الذي يُفترض أنه جزء من أرض الميعاد الممتدة من النيل إلى الفرات، مروراً بسواحل المتوسط الشرقية. ومن هذا المنظور، لا يبدو الحضور الإسرائيلي في قبرص واليونان مجرد خيار استراتيجي معاصر، بل امتداداً لتصور توراتي يسعى لترجمة الهيمنة الرمزية إلى واقع جغرافي وسياسي ملموس، بدعم من التحالف الأميركي – الأوروبي.
بين تضامن الشعوب وتواطؤ الحكومات
ورغم انخراط الحكومتين القبرصية واليونانية بقيادة احزاب اليمين فيها في هذه التحالفات العسكرية والاقتصادية والاستخباراتية، فإن الموقف الشعبي في البلدين يعبر عن تضامن أخلاقي وإنساني وسياسي، فمنذ عشر سنوات كان البرلمان اليوناني قد اتخذ قرارا لم تنفذه الحكومة حتى اليوم بالاعتراف بدولة فلسطين. كما وكانت قبرص قد اعترفت أواخر الثمانينات بدولة فلسطين عندما فاز الشيوعيين برئاسة الجزيرة لكنها تعيق ذلك اليوم في إطار سياساتها المنحازة والتابعة. بمقابل ذلك نجد مواقف واضحة للشعبين اليوناني والقبرصي واحزابهم التقدمية واليسارية تقف الى جانب كفاح شعبنا الفلسطيني، ففي الأيام الماضية خرج الشارع اليوناني، في تظاهرات واسعة رفضاً لرسوّ سفن إسرائيلية سياحية كما حدث خلال الشهر الماضي في ميناء بيراوس. هذه المشاهد وغيرها من التظاهرات الحاشدة في كافة المدن والجزر تؤكد أن وجدان الشعوب في المتوسط لا يزال يقف إلى جانب العدالة والحق، رغم محاولات حكوماتها تبرير التطبيع أو التحالف العسكري مع دولة الاحتلال التي ترتكب جرائم الحرب والإبادة والاستيطان الكولنيالي والأحلال والاقصاء.
غير أن هذا الوجدان الشعبي لا يجد انعكاسا في السياسات الرسمية لحكومات البلدين. ففي الأمم المتحدة، أظهرت كل من اليونان وقبرص خلال العامين الأخيرين اصطفافا واضحاً غير معتاد خلف السياسة الأميركية – الإسرائيلية، إذ امتنعتا أو صوتتا ضد عدد من القرارات المتعلقة بوقف العدوان الإسرائيلي على غزة وحماية المدنيين الفلسطينيين، ومساءلة إسرائيل عن انتهاكاتها وجرائمها في اراضي دولة فلسطين المحتلة وذلك خلال عدد من اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة وفي بعض المنظمات الأممية. كما سارع رئيسي حكوماتهما بلقاء نتنياهو بعد قرار محكمة الجنايات الدولية خلال عدوان الإبادة في وطننا، وتبنت الحكومتين مواقف متحفظة إزاء تنفيذ القرارات الخاصة بالاعتراف بحقوق شعبنا الفلسطيني في تقرير مصيره وإنهاء الاحتلال وغيرها من القرارات ذات الصلة، ما يعكس ازدواجية ونفاق سياسي بين موقف الحكومتين القبرصية واليونانية كمكون من الخطاب الأوروبي المعلن حول “القانون الدولي” و" حل الدولتين "وبين واقع الممارسة السياسية التي تخضع لحسابات التحالفات الأمنية والاقتصادية مع إسرائيل.
إن ما يجري في شرق المتوسط اليوم بما في ذلك بغزة لما تحتويه من موارد طبيعية ومكانة استراتيجية، ليس مجرد اعادة احتلال وتحالفات عسكرية وأمنية، بل إعادة تشكيل للهندسة الجيوسياسية للمنطقة بما يتجاوز حدود الدول ومصالح الشعوب. فإسرائيل، التي سقط وهم استمرار تقديم نفسها كضحية بالفترة الاخيرة، تتحول اليوم تدريجيا إلى مركز هيمنة يستخدم التكنولوجيا والاقتصاد والأمن لتوسيع نفوذها على حساب الآخرين. والنتيجة أن الاحتلال والفكر الاستعماري يتجدد بثوب جديد، توسع ناعم ممول بالمشاريع الاقتصادية وخطوط الطاقة والغاز والتكنولوجيا العسكرية والأمنية والمدن الذكية والريفيرا، مسنود بغطاء من “التعاون الدفاعي” مع الولايات المتحدة وبعض الشركاء الأوروبيين المتوسطيين.
وليس من المبالغة القول إنّ هذا التمدد الإسرائيلي في قبرص واليونان لا يمكن فصله عن التحرك الأميركي الأشمل لإعادة هندسة المجالين البحري والأمني من البحر الأحمر إلى شرق المتوسط من خلال احداث السودان والهجوم المستمر على اليمن والاستيلاء على جزر بالبحر الاحمر ومشكلة سد النيل بين إثيوبيا ومصر، واستمرار تمويل الاحداث في ليبيا. فواشنطن تنسق عن قرب مع تل أبيب لتثبيت وجود دائم يضمن حماية خطوط الطاقة والممرات التجارية والمائية، ويطوق في الوقت ذاته النفوذ الروسي والصيني والإيراني في المنطقة، كما استقلال وسيادة الدول العربية المشاطئة للبحرين الاحمر والمتوسط. وهكذا تتحول قبرص واليونان من جهة، وتركيا من جهة اخرى إلى محطات أمامية في مشروع تطويق المشرق العربي، فيما يُراد لفلسطين أن تبقى خارج معادلة السيادة على الارض والبحر والموارد. إن ما يُرسم اليوم هو مشهد جديد من السيطرة بعد غزة التي لم تنتهي الحرب بها بعد باعتقادي، تُستخدم فيه الجغرافيا والاقتصاد والدبلوماسية كسلاح لاستدامة الاحتلال وإعادة إنتاجه بصيغ أكثر نعومة وخطورة.
ما تحتاجه شعوب المنطقة اليوم، وفي مقدمتها شعبنا الفلسطيني، هو إعادة تعريف مفهوم الأمن الإقليمي من خلال تعريف المشروع الوطني التحرري الفلسطيني على أسس من حق تقرير المصير والاستقلال الوطني والعدالة والاحترام المتبادل للسيادة من خلال الدبلوماسية المقاومة والنشطة لإنهاء الاحتلال أولاً، لا على مقاس المصالح الإسرائيلية – الغربية. فالتوازن الحقيقي في شرق المتوسط لا يمكن أن يقوم على تهميش الحقوق الفلسطينية والعربية بشكل عام، ولا على تحويل المتوسط إلى بحر مغلق لصالح القوة الاستعمارية ذات الرؤية التوسعية، مهما غلفتها الشعارات الدبلوماسية الزائفة.
وفي نهاية المطاف، فإن “إسرائيل” التي ترسم نفوذها بخطوط الغاز والبحر والسلاح والاقتصاد الوهمي، إنما تواصل بثوب استراتيجي حديث ترجمة الأسطورة التوراتية القديمة التي ترى في الجغرافيا وعداً إلآهياً وتوسعاً عقائدياً، لا شراكة إنسانية أو قانوناً دولياً تخدم شعوب المنطقة واستقرارها.