
شكّل قرار مجلس الأمن رقم 2803، المتعلّق بخطة ترمب في غزة، محطة سياسية حساسة تفتح الباب أمام مرحلة جديدة قد تحمل معها تغيّراً جذرياً في المشهد الفلسطيني، بما في ذلك احتمالات انتهاء السرديات التي هيمنت عليها بعض الفصائل المسلحة، وفي مقدمتها حركة حماس. فبعد عقود من السيطرة وما رافقها من كوارث إنسانية وسياسية عانى منها الشعب الفلسطيني، يبدو أن هذا القرار يمكن أن يُقرأ كفرصة لإعادة تقييم المسار الوطني برمته، بعيداً عن الخطابات المستهلكة.
وهنا تبرز تساؤلات مشروعة: هل كنّا بحاجة إلى قرار مثل 2803 كي تنكشف كل طبقات الجدل المعلّق فوق واقعنا الفلسطيني؟ هل كنا ننتظر لحظة كهذه لنكتشف الفجوة بين ما نريده فعلاً وما نُجبر على تبنيه؟ وهل سيبقى النقاش الدائر اليوم، والذي سيستمر لأسابيع وربما لشهور، أسيراً للقوالب نفسها التي نُعيد إنتاجها منذ عقود، أم أننا أمام زلزال سياسي يعيد ترتيب كل شيء؟ لماذا هذا الخوف الدائم من أي تغيير قد يكون ضرورياً؟
منذ سنوات طويلة، تعلّقت قضيتنا على شعارات مضخّمة وكلمات أكبر من قدرتها على أن تصنع واقعاً جديداً. واليوم، ومع قرار 2803، نقف أمام مفترق طرق غير مألوف. وللمرة الأولى ربما، تُطرح على الفلسطينيين فكرة لا تقوم على الحكاية التقليدية، بل على سؤال واحد بسيط وصادم: هل ما نخشاه فعلاً… يستحق كل هذا الخوف؟ ولماذا يبدو أن بعض الفصائل تستعد لمعركة روايات، أكثر مما تستعد لمعركة حقّ الشعب في الحياة؟ هل النقاش اليوم دفاع عن فلسطين… أم دفاع عن أدوار اعتاد البعض عدم التخلي عنها؟ وسط الضجيج، يقف الفلسطيني العادي حائراً بين رفض تلقائي يُطلب منه تبنيه، وبين إحساس داخلي يقول: ربما آن الأوان أن نسأل أنفسنا بصدق، هل التمسك بكل ما هو قديم حقق لنا شيئاً؟
ليس الاعتراض على القرار جديداً؛ فالفصائل التي بنت نفوذها على الانقسام ورفض التغيير ترى فيه تهديداً لمصالحها. لكن السؤال الحقيقي هو: هل تعترض دفاعاً عن الشعب… أم عن امتيازاتها؟ في المقابل، يرى كثير من الفلسطينيين في القرار نافذة للخروج من دائرة المعاناة المستمرة، بعيداً عن الشعارات التي لم تجلب سوى الألم والدمار.
وقد يقول البعض إن القرار يمسّ الحقوق الوطنية، لكن واقع الحال يطرح سؤالاً أكثر إيلاماً: ماذا تبقّى لنخسره؟
لا دولة قائمة، ولا سيادة تُمارس، ولا مسار تحرر حقيقي. ما يحتاجه الشعب اليوم ليس المزيد من الوعود، بل فرصة ليعيش بكرامة ويستعيد حقه في تقرير مصيره عبر مسار سياسي واضح لا تتحكم فيه الفصائلية ولا السلاح.
أفول حماس أو غيرها من القوى التي احتكرت القرار الوطني قد يكون مرحلة موجعة، لكنه قد يكون أيضاً خطوة ضرورية لفك الارتباط مع واقع مأساوي طال أمده. لسنا أمام نهاية القضية الفلسطينية، بل ربما أمام بداية جديدة، بشرط أن تُدار المرحلة المقبلة بعقلانية ومسؤولية، وأن يُعاد الإنسان الفلسطيني إلى مركز المشهد، لا الكيانات التي تتحدث باسمه. لقد أصبحت سردية المقاومة الحصرية أشبه بجدار إسمنتي يقف بين الناس وبين مستقبلهم. جدار يفتح باب الحرب ويغلق باب الحياة، يقدّس المعاناة ويشيطن الأمل. ومع كل حدث، تُعاد الرواية ذاتها: نرفض، نعارض، نستنكر… ولكن: هل أصبح الرفض موقفاً وطنياً… أم عادة سياسية؟
الحقيقة التي لا يريد البعض سماعها هي: الشعب الفلسطيني لم يعد يملك ما يخسره. لا دولة ضاعت لأنها لم تولد. لا سيادة انتُزعت لأنها لم تُمارس. لا حرية أُغلقت لأنها بقيت حلماً مؤجلاً. ما نخسره اليوم هو مجرد منظومة أوهام بُنيت فوق الألم، وتمت تغذيتها لسنوات لكي تبقى بعض الأطراف فوق الجميع. ولذا قد يكون هذا القرار صفحة جديدة، ليس لأنه مثالي، بل لأنه يحرك الماء الراكد الذي لم يخلّف سوى الغرق.
من حق الناس أن تخاف من الجديد، لكن من الظلم أن يُعاقَبوا ببقاء القديم. ولأول مرة منذ زمن طويل، يمكن للشعب أن يرى نافذة تُفتح، لا لتمنحه دولة جاهزة، بل لتمنحه شيئاً أثمن: مساراً نحو حياة طبيعية بلا قداسة السلاح، بلا احتكار للقرار، بلا سرديات تلتهم أبناءها. نحن أمام لحظة تستحق الشجاعة لا الفزعات؛ التفكير لا الرفض التلقائي؛ لحظة تقول للفلسطينيين: جرّبوا الحياة… ولو مرة واحدة.
في النهاية، لا يمكن لأي شعب أن يبني حريته من بوابة موت لا تتوقف، ولا من نفق لا يُرى فيه ضوء. الحرية ليست بطولة تُقاس بعدد القبور والموتى. الحرية مشروع حياة، ومسار أمل، ومستقبل يليق بإنسان أنهكه الانتظار. لهذا، قد يكون قرار 2803، مهما أثار الجدل، فرصة لإعادة تعريف الطريق. ليس لأنه يحمل الحل السحري، بل لأنه يفتح نافذة جديدة يضع الإنسان الفلسطيني في المقدمة، وليس السرديات التي استهلكت عمرنا. ما يجب ألا نختلف عليه هو أن شعبنا يستحق أن يعيش، لا أن يموت من أجل أنقاض لا تتغير.