فلسطين ما بين نظامين...

 

 

 

أيّام قليلة تفصلُنا عن تحديد ملامح خارِطة الطريق التي تُريد الإدارة الأمريكيّة ترسيمها في قطاع غزّة بشكل خاصّ، وكامل فلسطين والشرق بشكلٍ عامّ، فيما يمكنُ أن نُطلق عليه خارطة "الانتداب المُعاصر" ذاك الذي يبحث عن تثبيت مشهد القضيّة الفلسطينيّة كواجهة مُتقدّمة لمشروع أوسع، عبر تخليق حالة من حالات السيطرة بِالقانون، كبديل عن سيادة القانون، ليُصبح السؤال المباشر والبسيط: هل سينجح الحراك الأمريكيّ في ظلّ التحوّلات الكبرى التي تدور على مسرح السياسة الدوليّة؟

فعلى الرّغم من انتزاع إدارة ترمب، لقرار من مجلس الأمن يشرعن سلوكها الاستعماري، ويسمح لها ولحلفائها في تلّ أبيب، فرض رؤاهما للتحكّم والسيطرة على قطاع غزّة تحت سقف دولي، إلّا أنّ ثمّة عقبات ومطبّات وثيقة الصّلة بالتحوّلات على المسرح الإقليمي والدولي على حدّ سواء، ستجعل من الأمر عسيراً على التطبيق، إن تناولنا كامل المشهد من ثلاثة أبعاد أساسيّة للحدث وارتداداته.

البعد الأوّل مرتبطٌ بالإرادة السياسيّة للدول الوازنة في الإقليم، مصر، والسعوديّة، وتركيا على وجه التحديد، وإن تباينت مواقفُ وسياساتُ الدولِ المذكورة، إلّا أنّها إرادةٌ تدورُ في فَلَكِ الشّراكةِ لا التبعيّة، ارتباطًا بعديد العوامل المتداخلة، خاصةً وهي تَعلَمُ حاجةَ واشنطن للمضيِّ قُدمًا في مشروعِ "السّلامِ الإبراهيمي" في سياقِ متطلّباتِ معركتِها الأوسعِ والأهم مع لاعبينَ دوليينَ أكثرَ تأثيرًا على حضورِها وفعلِها، كما اللاعبِ الصينيّ والروسيّ من ورائِه، فضلا عن متطلبات الإنجاز داخليا وخارجيا لعبور الانتخابات النصفية.

أمّا البُعدُ الثاني، فهو مُتّصِلٌ بالحربِ الباردة، إن صحّت التسمية، بين البيتِ الأبيضِ والعديدِ من الدولِ الغربيّةِ الوازنة وعلى رأسِها فرنسا، وبريطانيا، وإن لم تخرُجْ أيّةُ تعبيراتٍ علانيّةٍ عن هذا التصدّع مع الأخيرةِ إلى الحيّزِ العام، حيث بات توليدُ المُقارباتِ على صُعُدٍ عدّةٍ من الصعوبةِ بما كان في ظلِّ إدارةٍ أمريكيّةٍ تتعمّدُ إهانةَ الشركاءِ ووضعَهم في مربّعِ التبعيّةِ المفضوحةِ بالمعنى السياسي وحصادِه. عَلَمًا بأنّ هذا التصدّع لا يعني بالضرورةِ تفكّكَ هذا المعسكر، ولكنهُ يعني انطويه على الكثيرِ من تعبيراتِ الهشاشةِ التي باتَ عليها.

إلّا أنّ المُفاجِئَ والأهمّ والأخطر، هو ما يكمنُ في البُعدِ الثالث، وهو المُرتبطُ مباشرةً بالروايةِ على الصعيدِ الاجتماعي، سواءً في الداخلِ الأمريكي، كما تُظهِرُ العديدُ من استطلاعاتِ الرأي، أو في الشارعِ الغربيِّ عموماً، إن أخذنا بعينِ الاعتبارِ الممارسةَ الإعلاميّة التي تحرّرَت سقوفُها من الأجنداتِ السياسيّةِ من جهة، وتعبيراتِ النُّخَبِ المؤثِّرة، كما الفنيّة، أو الرياضيّة، أو حتى السياسيّة من جهةٍ أُخرى. ولنا أن ننتبهَ هنا لمعاني ودلالاتِ ما أفضت إليه انتخاباتُ مدينةِ نيويورك، وفوزُ الديمقراطيِّ التقدّميِّ "زهران ممداني" بمنصبِ عمدةِ المدينةِ على عكسِ إرادةِ ساكنِ البيتِ الأبيض، ناهيكَ عن دخولِ الاقتصادِ الأمريكي المرحلةَ الأصعبَ منذ عقودٍ طويلةٍ مع ما تشهدهُ الولاياتُ المتحدةُ اليوم من إغلاقٍ جزئي، هو الأطولُ في تاريخِها.

كلُّ هذه التداعياتِ تدفعُنا للقراءةِ الاستراتيجيّةِ لمُعطياتِ مشهدِ النظامِ الأحاديِّ القُطبيّة ومؤشّراتِ تحوّلاتِه إلى التعدديّة، ودورِ الشرقِ وقضيّتِه المركزيّةِ في هذا التحوّل، ما يعني أنّ ما يجري في فلسطين ليس حدثا معزولًا، بل تجلٍّ لصراعٍ دوليٍّ أوسعَ يختبرُ شكلَ النظامِ العالميِّ نفسه، وأنّ واشنطن تُحاوِلُ صياغةَ ترتيباتِ “انتدابٍ جديد” ولو عبرَ بوّابةِ القانونِ الدولي.

ولأنّ هذه التحوّلاتِ مُجتمعةً، وأهمَّها التحوّلُ على صعيدِ الرواية، تُضعفُ شرعيّةَ السرديةِ الأمريكيّةِ في الداخلِ وفي الغرب؛ فإنّ قدرةَ واشنطن على تثبيتِ ترتيباتِ “الانتدابِ المُعاصر” تُصبِحُ أكثرَ هشاشة، إذ تتحوّلُ من مشروعٍ مفروضٍ بالقوّة إلى مشروعٍ بلا ظهيرٍ شعبيٍّ أو سياسيٍّ قادرٍ على تبنّيه وحمايته، وبذلك، ينتقلُ الصراعُ من ميدانِ القوّة إلى ميدانِ الشرعيّة، حيث احتمالاتُ خسارةِ فكرةِ "الانتداب" ستكونُ أوسعَ تحديدًا على جهةِ أدواتِه الأخلاقيّة.

لكنّ جوهرَ التحوّلِ لا يكتملُ دون التوقّفِ أمامَ الفاعلِ الفلسطينيِّ نفسِه؛ فالمعادلةُ لم تعُدْ تُكتَبُ فقط بأقلامِ الإقليمِ والعالَم، وإنّما بمدى قدرةِ الفلسطينيِّ على إعادةِ تعريفِ ذاتِه ونظامِه السياسيّ ودورِه.

فإنّ حركةَ حماس التي دخلت معادلةَ الوصاية طوعًا، عبرَ تبنّي خطةِ ترمب ببُعدِها الإنساني-الأمني، بوصفِها مدخلًا مُحتَمَلًا لجلب شرعيّة دولية، تَبحثُ اليوم عن اعترافٍ سياسيٍّ يضمنُ لها البقاءَ لاعبًا أساسياً في المشهدِ القادم، ولو تحت سقفِ ترتيباتٍ إقليميّةٍ ودوليّة.

أمّا السلطةُ الفلسطينيّةُ، الإطارُ الشرعيُّ المُعترفُ به دوليًا فهي تُدافِعُ عن مكانتِها التمثيليّة، حتى لو جاء ذلك عبرَ مزيدٍ من التعاطي مع المتطلّباتِ الدوليّة، باعتبارها الجهةَ المُؤهّلةَ لإدارةِ المرحلةِ التالية، كما تُصرُّ المجموعةُ العربيّةُ.

فعلى الرّغمِ من موقفِ القاهرةِ الحاضنِ لتصور يُعيدُ بناءَ شكل "الفترة الانتقالية"، وكذلك موقفِ العربيّةِ السعوديّة بورقةِ "التحالفِ الدولي" الباحث عن فتحِ مسارِ حلِّ الدولتين، قد ينزلقُ المشهدُ تلقائيًا نحوَ صيغةِ تقاسُمٍ وظيفيٍّ بين الفصيلِ والدولة، الأمرُ الذي يَصبُّ مباشرةً في رؤيةِ واشنطن لقطاعِ غزّة باعتبارِه منطقةَ إدارةٍ دوليّةٍ محليّةٍ هجينة، على غرارِ نماذجِ حُكمِ ما بعدَ النزاعِ في مناطقَ أخرى حولَ العالم، علمًا بأنّ هذه الصيغةَ قد فشلتْ قبلًا في الصومالِ بدايةَ تسعينيّاتِ القرنِ الماضي، وكذلك في كوسوفو نهايةَ القرنِ نفسِه.

من هنا تتجلّى خطورةُ اللحظة، فبينما يتجادلُ العالمُ حولَ من يُمسِكُ بمفاتيحِ الغد، يتراجعُ السؤالُ الأهمُّ: أيُّ مشروعٍ وطنيٍّ يُرادُ له أن يولد؟ وهل سيكونُ الفلسطينيُّ سيّدًا أم مُنفِّذًا لوظيفة؟

في ضوءِ ما سبق، تظهرُ فلسطينُ اليومَ على تخومِ نظامين؛ نظامٍ أحادي حصر الفعل السياسي في حدود قاعدةِ ِ الهيمنة، ونظامٍ مُقبلٍ بدأ يولدُ من نزيفِ التنافسِ الدوليِّ وإعادةِ هندسةِ الجغرافيا السياسيّة؛ وما بينهما، تنتصبُ فلسطينُ ليس بوصفِها ساحةَ اختبارٍ وحسْب، ولكن باعتبارِها محرّكًا فاعلًا لميلادِ التعدديّة القطبية.

هكذا تُصبِحُ الإجابةُ أقصرَ عن سؤال الانتداب، وأكثرَ عن سؤال: أيُّ نظامٍ ستختارُه فلسطينُ كي لا تتحوّلَ من مشروعٍ للتحرّر إلى وظيفةٍ داخلَ معادلاتِ الآخرين؟ فبين نظامٍ ينهارُ وآخرَ يولد، تتموضع فلسطين جسراً ما بين عالمين، جسراً يمكنه أن يشكل حجر زاوية في إعادة تعريفِ معنى السيادةِ، إن أحسنَ مستواها القيادي التصرّف السياسي.

 

 

 

Loading...