
بصرف النّظر عن اتفاقنا أو اختلافنا مع قرار مجلس الأمن 2803، المرتبط بإنهاء حرب الإبادة وتشكيل ما أعلن عنه تحت مُسمّى "مجلس سلام"، ليس من مسؤوليّة الفلسطينيّ أن يتعامل مع القرار بوصفه خلاصاً سياسياً، ولا بوصفه فخّاً كاملاً؛ إنّما عليه أن يقرأه كمساحة للفعل؛ فما بين الرّفض والتّسليم، هناك دائما مساحة فاصلة يجب أن تدفعنا إلى ما اعتبره فرصة لإعادة الإعمار السّياسي، أي إعادة بناء القدرة على الفعل في لحظة تكدّس الرّكام أعلى المسار الدّبلوماسي.
إنّ جديد هذا القرار، وعلى الرّغم من فرضه لمعادلة قاسية، يُشير إلى أنّ غزّة باتت فعليّاً تحت ولاية أمميّة جزئيّاً، ولكنّه في المقابل يؤكّد لأوّل مرّة منذ 30 عاماً، على أنّ التّفرّد الإسرائيليّ بالمصير الفلسطينيّ لم يعد ثابتاً، وهو ما يجب التّعامل معه من دون عدميّة، ومن دون مبالغة في التّوقعات، إذ بات الملف الفلسطينيّ شأناً دوليّاً يُناقش تحت سقف مجلس الأمن، لا في غرف العمليات الإسرائيليّة؛ وهي النّقطة الأكثر إثارة للجانب الإسرائيليّ، ببساطة لأنّ هذه النّقطة تعدّ انتزاعاً فعليّاً لاحتكار تحديد المستقبل الفلسطينيّ.
وعدم العدميّة هنا، لا يعني التّهليل لهذا القرار، ولا يعني تجاهل مخاطره، بل يعني ضرورة العمل على استخدام القرار لا الخضوع له، ويعني أهميّة البناء على النّقاط الإيجابيّة فيه لا الانبهار بها، ويعني أنّ المهمّة الأولى للجانب الفلسطينيّ تكمن في رفع الكلفة السياسيّة على الجانب الإسرائيليّ عبر هذا الإطار الدّوليّ الجديد، وهو يعني بالضّرورة إعادة ترتيب البيت الفلسطينيّ ليصبح قادراً على استثمار اللّحظة بدلا من الانقسام حولها، وهذا تحديداً هو جوهر "إعادة الإعمار السّياسي" أن نحوّل كلّ ركام وكلّ قرار وكلّ خطأ إسرائيليّ إلى مساحة لفعل فلسطينيّ جديد ووطنيّ بامتياز. كلّ ما نحتاجه اليوم، كي لا نكون عدميّين، هو أن نعيد بناء أدوات الفعل الفلسطينيّ، وأن نؤمن بأن السّياسة مثل الحياة: تُبنى، ولا تنهض وحدها.
نحو تحويل القرار إلى قاعدة سياسيّة جديدة
إن كان القرار 2803 قد فتح نافذة، مهما كانت ضيّقة، نحو مسار سياسيّ، فإنّ أوّل ما يجب فعله فلسطينيّاً هو تثبيت هذه النّافذة قبل أن تُغلق، وهذا يبدأ من التّعامل مع العبارة المحوريّة التي وردت في نصّ القرار "مسار موثوق نحو دولة فلسطينيّة" والتي تعني عمليّاً اعترافاً ضمنيّاً بأنّ الوضع الإسرائيليّ القائم غير قابل للاستمرار.
هذه الجملة ليست تفصيلاً لغويّاً؛ وإنّما هي قاعدة تفاوضيّة يجب تحويلها إلى مرتكز سياسيّ غير قابل للتّراجع، فكلّ مسار تفاوضيّ بلا قاعدة ثابتة يتحوّل سريعاً إلى مناورة أو تبديد للوقت، أمّا الآن، فلدينا نقطة ارتكاز دوليّة يمكن البناء عليها، خاصة إذا رُبطت بما تشهده الضّفة الغربيّة والقدس من واقع استعماريّ فاجر، يجعل الحلّ السياسيّ، لا إدارة الأزمة، ضرورة دوليّة.
ما يعني أنّ أيّ نقاش سياسيّ يجب أن يبدأ من الاعتراف الدّوليّ بالدّولة الفلسطينيّة كأفق سياسيّ، لا كرهان معلّق بيد إسرائيل، ولأنّ القرار أخرج ملفّ غزّة لأوّل مرّة من يد إسرائيل وحدها ووضعه على الطاولة الدّوليّة، فهذا يفرض تحوّلاً في طريقة العمل السياسيّ، حيث لم يعد ممكناً التّعامل مع غزّة كـ "ملفّ أمني"، بل كجزء من تسوية سياسيّة شاملة تتّصل بمصير الشّعب الفلسطينيّ كلّه.
إعادة تعريف الرّفض
عند هذه النّقطة يصبح ضروريّاً الانتقال إلى تحديد آليّات العمل الفلسطينيّ، بدءاً من إعادة تعريف معنى الرّفض، إذ أننا ومع تفاعلنا الإيجابيّ، سنتمكن من رفض الشّروط الإسرائيليّة المتّصلة بشكل الحكم، وصيغ إعادة الإعمار، وفتح المعابر، كما رفض وجود السّلطة الوطنيّة الفلسطينيّة على الأرض، على سبيل المثال؛ ما سيجعله رفضاً منطقيّاً وعقلانيّاً ينسجم مع نصّ القرار نفسه، فالقرار لم يعطِ تل أبيب صلاحيّة هندسة مستقبل غزّة، ولا صياغة ترتيبات الحكم والإدارة. وبالتّالي، فإنّ أيّ محاولة إسرائيليّة لفرض شروطها يجب التّعامل معها باعتبارها مخالفة للإجماع الدّوليّ الجديد، لا مجرّد خلاف سياسيّ، ما يفتح الباب واسعاً لمطالبة واضحة، بإن تكون مهامّ القوّة الدّوليّة في المقام الأوّل، هي حماية المدنيّين الفلسطينيّين واستعادة الاستقرار عبر فرض النّظام، وهو ما يجب انتزاعه سياسيّاً.
وحتّى لا يتحوّل القرار إلى ورقة ضغط سياسيّ على الجانب الفلسطينيّ، من المهمّ العمل مع الدّول الوازنة في الإقليم للمطالبة بجدول زمنيّ واضح لتنفيذ المرحلة الثّانية، مع ضرورة تفعيل آليّات مراقبة دوليّة بهدف محاسبة أيّ طرف يعرقل التّنفيذ، فضلا عن ضرورة وجود ضمانات تمنع تسييس الإغاثة أو ربط الإعمار باعتبارات أمنّية تخدم المشاريع الإسرائيليّة، فمن دون هذه العناصر، سيعود القرار بنا إلى نقطة الصّفر، ليصبح مجرّد غطاء لإدارة الأزمة لا حلّها، وستبقى إسرائيل قادرة على تفريغ القرار من محتواه السّياسي.
علينا أن نُذكّر العالم بأجمعه، أنّ الحكومة الإسرائيليّة الحاليّة، بكلّ مُركّباتها الفاشيّة، لا ترى في الدّولة الفلسطينيّة احتمالاً سياسيّاً أو تاريخيّاً، ولذا فهي لا تقبل بحدود العام 1967، ولا حتّى بأيّ تصوّر إداريّ للفلسطينيّين، ولذلك تعتبر أنّ مجرّد تضمين القرار لعبارة “مسار نحو دولة” هو تهديد مباشر لبنية الائتلاف الحاكم، وهو ما يفرض أن يكون الالتزام الدّوليّ متعدّد الأطراف هو الضّامن الوحيد لأيّ مسار سياسي.
كلّ ذلك وغيره، يفرض ضرورة إعادة صياغة الخطاب السّياسيّ بكلّ مكوّناته الدّبلوماسيّة والإنسانيّة، لنؤكد على أن الفلسطينيّين أصحاب مشروع سياسيّ منذ إعلان الاستقلال وحتّى اليوم، وأنّ وجود الاحتلال هو متن الإشكال، وعدم الاستقرار هي النّتيجة، لا العكس ما يعني أنّ الفلسطينيّ صاحب حقّ، لا مجرّد مفردة في ملفّ إنسانيّ ينتظر الإغاثة وإعادة الإعمار.
ختاماً، ولإنّ إعادة الإعمار السّياسيّ، لا يمكن لها إلا أن تبدأ من الدّاخل، أي من ترتيبات للحكم والإدارة يجب أن تنطلق من شرعيّة داخليّة، لا من هندسة مفروضة من الخارج، فأمام الفلسطينيّ اليوم قاعدة واضحة مهمّ أن يتعامل معها، لا دولة بلا وحدة، ولا وحدة بلا أفق سياسيّ يوافق عليه الفلسطينيّون أنفسهم، وهو ما يتطلب عمليّة سياسيّة داخليّة، وليست مجرّد مصالحة شكليّة، ما يعني صياغة مشروع سياسيّ واحد، تكون غزّة جزءاً منه لا ورقة منفصلة عنه.
على الفلسطينيّ الوعي أنّ إعادة الإعمار السّياسيّ ليست شعاراً، بل محاولة لالتقاط لحظة سياسيّة غير مسبوقة، لحظة تحوّلت فيها غزّة، بدمها وركامها، إلى مرآة تكشف حقيقة فعلنا الفصائليّ والفرديّ، وكلّ ما نحتاجه اليوم هو أن نلتقط هذه اللحظة: لا بتهليل فارغ، ولا برفض عدميّ، بل بإرادة سياسيّة تعيد للفعل الفلسطينيّ قُدرته على الحياة.