
تحول موسم قطف الزيتون في الضفة إلى مرادف للعنف، وكان في الماضي وقتاً لاجتماع العائلة للخروج إلى القطاف معاً، والنوم أحياناً في البساتين لعدة أيام، وها هو قد تحول إلى حمام دم مستمر.
وفقاً لبيانات الأمم المتحدة، فقد سُجل في تشرين الأول من هذه السنة أكثر من 260 حادثة عنف قام بها يهود ضد فلسطينيين، وهو رقم قياسي غير مسبوق، ويمكن افتراض أن أرقام تشرين الثاني ستنافسه. وقد أحصت بيانات الجيش الإسرائيلي نحو مئة حادثة إرهاب يهودي، وحتى لو كانت المنهجيات مختلفة، إلا أن الأرقام القياسية السلبية تحطَم تباعاً.
وفي خضم ذلك كله بذلنا كل ما في وسعنا للمساعدة؛ فالمتطوعون والحاخامون من حركة «حاخامون للدفاع عن حقوق الإنسان» خرجوا لنحو 30 يوماً لقطف الزيتون، للسنة الثانية والعشرين على التوالي. ما الذي فعلناه هناك؟ حضور وقاية: نستخدم مجرد وجودنا، بما في ذلك الامتيازات التي لدينا بصفتنا إسرائيليين ويهوداً، لتمكين وصول المزارعين الفلسطينيين إلى بساتينهم الخاصة، وذهبنا إلى البساتين المهددة بصورة خاصة، بما في ذلك تلك التي لم يزرها أصحابها منذ 7 تشرين الأول 2023، وكنا نقدَّر كل يوم بعشرات ومئات المتطوعين.
هذه ظاهرة استثنائية، ليس فقط من ناحية حماية حقوق الإنسان، بل أيضاً من جهة أنها تتيح للإسرائيليات والإسرائيليين الذين لا يعرفون الواقع على الأرض أن يواجهوه مباشرة. وقد شارك نحو 1500 متطوعة ومتطوع هذه السنة في أيام القطف، وهذا أيضاً رقم قياسي، على الرغم من كل شيء، وربما تحديداً لأننا نريد أن نؤمن بأننا لم نفقد الأمل بعد.
عندما تسلمت إدارة منظمة «حاخامون من أجل حقوق الإنسان» سنة 2019، كنت لا أزال يسارياً يؤمن بالسلام والعدالة، وقطعت الطريق بالكامل من اليمين الديني وحركة بني عكيفا، لكنني لم أعرف الواقع الفلسطيني في الضفة إلاّ من بعيد، فكانت بالنسبة إليّ الأرض وراء الجبال، كما وصفها الكاتب نير برعام. وفي موسم القطف الأول الذي قدته، تعرض أحد أعضاء مجلس الإدارة لدينا، الحاخام موشيه يهوداي، لهجوم في قرية بورين؛ إذ جاء ملثمون من يتسهار، وأشعلوا النار في بستان الزيتون الذي كنا نعمل فيه، واعتدوا على الحاخام البالغ من العمر 80 عاماً، وعلى متطوعين آخرين، ولم تعد مديرة مكتبنا قادرة على العودة إلى الميدان حتى اليوم بسبب صدمة ذلك اليوم الرهيب.
ومنذ ذلك الحين، واجهنا العديد من الاعتداءات، لكننا لم نعرف موسماً عنيفاً ومليئاً بالعراقيل كالموسم الذي ينتهي هذه الأيام؛ ففي 30 يوم قطاف، تعرضنا لخمس هجمات بمستويات خطورة متفاوتة، وخلال نصف هذه الأيام، توقفت أعمالنا بسبب أوامر عسكرية؛ بعضها كان أوامر تمنعنا تماماً من الوصول إلى الأرض، وهذا ما حدث قبل أسبوعين عندما جئنا مع نحو 400 ناشط من عدة منظمات، وكذلك الجمعة الماضية، حين أُلغي سوق المزارعين التابع لنا لأن قائد المنطقة منع 100 من متطوعينا من دخول غوش عتسيون.
كم شخصاً منكم وقف بلا سلاح على بُعد أمتار من سلاح مشحون موجه ضده واليد على الزناد؟ هذا لم يحدث لي لحسن الحظ في 7 تشرين الأول 2023 عندما اضطررنا إلى الدفاع عن حياتنا في كيبوتس نيريم وخسرنا عدداً من الرفاق، لكنه حدث خلال موسم القطف الأخير؛ إذ قرر اثنان من أعضاء وحدة الحراسة في مستوطنة رباباه تهديد مجموعة من الحاخامين والناشطين غير المسلحين، وأطلقا النار في الهواء داخل بستان خاص في قرية بني حسان.
أفترض، ككثيرين من الإسرائيليين، أنني لم أرد مواجهة هذا الواقع، فهو قاسٍ وصادم ومخيف وخطِر، كما أنه يكشف الجوانب القبيحة في جيشنا، الذي يقف غالباً موقف المتفرج، وأحياناً يساعد بصورة مباشرة في أعمال الإرهاب اليهودي، وكذلك الشرطة الإسرائيلية التي لا تفرض القانون ولا تحقق ولا تعتقل.
منذ بداية الموسم، أرسلت - بصفتي المدير العام للمنظمة - 8 رسائل إلى الجيش والشرطة بعد أن فشلنا في تنسيق لقاءات مسبقة: الرسالة الأولى حملت عنوان «راية سوداء ترفرف فوق موسم قطف الزيتون»، وقد سردت أحداثنا في سلواد؛ ففي اليوم الثالث من الحملة، هاجمتنا مجموعة ملثمين بالحجارة والعصي، وكانت تلك مجرد البداية.
يؤلمني حقاً - جسدياً - أن أرى جنودنا يتصرفون هكذا. ابني سيلتحق بالخدمة خلال الأيام المقبلة. لقد عدنا إلى منزلنا قرب خان يونس قبل بضعة أسابيع، وعلى الرغم من الإخفاق الكبير والصدمات والحرب المستمرة بكل قوتها، فإنه ليس لدينا جيش آخر. ومع كل الانهيار العميق الذي تمر به الشرطة، فإننا مضطرون أيضاً إلى وضع ثقتنا بها والعمل من أجل إصلاحها. مؤلم أن نراهم خاضعين ومتهاونين أمام الإرهاب اليهودي في أحسن الأحوال، ومساعدين له في أسوأها، فقد استسلموا تماماً لحملة اليمين «إلغاء موسم القطاف»، التي جرت الدعوة إليها هذه المرة من شبكات التواصل الاجتماعي والكنيست، ومباشرة عبر المستوطنين وأجهزة الأمن. والنتيجة الخطِرة هي أن الجيش والشرطة يضران بعملنا، وهو عمل لحماية حقوق الإنسان وتعزيز السلام والعدالة، والإصرار على قيم في جوهر الأخلاق الإنسانية واليهودية والصهيونية.
قد يدفعنا موسم القطاف الأخير إلى زاوية اليأس التام أو اللامبالاة الكاملة، فنحن نواجه عمليات وقوى هائلة مدعومة مباشرة من حكومة الضم والتدمير والإبادة، لكنني اخترت طريقاً آخر، ونحن نختار طريقاً آخر.
نشأت في اليمين، وكان الحاخام الأول لي الحاخام حاييم دروكمان، أحد بناة «غوش إيمونيم»، ومن مهندسي التيار الذي يهددنا جميعاً، وكان شعاره «قليلاً قليلاً»، وهذا ما يوجهني اليوم؛ خطوة بعد خطوة نبني واقعاً آخر. احموا الشرارة التي تربط البشر فيما بينهم في وطننا المشترك كي نشعل في القلوب ناراً كبيرة للسلام والأمن. ويا لها من ساعة مناسبة الآن.
عن «هآرتس»