فتح بين التجديد واستعادة روح الكفاح

قراءة في التحديات والرهانات المستقبلية (1)

 

 

 

منذ انطلاقتها، شكلت حركة فتح التجسيد الأوضح لمنهج المقاومة الوطنية الفلسطينية كخط كفاحي في مواجهة الاحتلال. وباعتمادها مبدأ النقد الذاتي في معالجة السلوكيات على الصعيد الداخلي للحركة والعمليات الفدائية النوعية ضد الاحتلال في فلسطين المحتلة وخارجها، تمكنت من تكريس حضورها بين مختلف شرائح الشعب الفلسطيني كحركة تحرر وطني اكتسبت شرعية وطنية وإقليمية وحتى عالمية، ودعمًا لافتًا من مختلف حركات التحرر في العالم.

لم يعد بالإمكان تجاهل إخفاقات الحركة، فقد أصابها ضعف في القيادة والتنظيم، مما أدى إلى فقدان الجماهير الثقة بمشروعها التحرري وتحولت تدريجيًا من حركة ثورية مقاوِمة إلى إطار محافظ، منشغلة بالحفاظ على مكتسبات السلطة بدل استعادة المبادرة الكفاحية، فيما بقي الشباب الفلسطيني يبتكر مقاومة فردية في اشتباكه مع الاحتلال بلا قيادة، كاشفًا مساحة الفراغ التنظيمي.

وفي محاولة للدخول إلى صلب الموضوع يتجلى السؤال ماذا يتطلب من الحركة لتعود سيرتها الأولى حاملة المشروع التحرري، جماهيرية، وحدوية وهجومية في مقاومة الاحتلال غير مرتهنة لأي من مشاريع التطبيع والتسوية؟

لعل ضبط إيقاع المقاومة وضمان استمراريتها يتطلب من فتح قيادة تتمتع بالقدرة على الإبداع السياسي والعسكري، قادرة على استعادة ثقة الجماهير التي كانت تراها التعبير الأكثر صدقًا عن إرادتها، وهذا لا يمكن أن يتحقق إلا بتجاوز الشلل الفكري الذي أصاب القيادة، وصياغة استراتيجية وطنية شاملة بعيدة المدى، تشمل الأمن والاقتصاد والثقافة والتعليم والإعلام، وإعادة بناء التنظيم بحيث يصبح قادرًا على التنفيذ لا مجرد إدارة الواقع.

ففي المشهد السياسي الراهن، لا يقدم الاحتلال أيًا من حقوق كفلتها الشرائع الدولية وشرعة حقوق الإنسان لشعب يرزح تحت أكثر احتلال جرمية وعنصرية، بل إن الخيارات المطروحة من قبل حكوماته المتطرفة والمتعاقبة تتمثل في خيارات ثلاث؛ إما طرد الفلسطينيين من الضفة الفلسطينية المحتلة، أو تكريس نظام "البانتوستانات" وفق نموذج جنوب أفريقيا، أو الإبادة وهو ما مارسته آلة القتل الإسرائيلية وتمارسه على مرآى ومسمع العالم. أما خيار رضوخ الكيان للضغوط الدولية والاعتراف بدولة فلسطينية على حدود 1967، وهو الخيار الأكثر واقعية فهو أبعد ما يكون عن قبول كيان الاحتلال ومنظومته العنصرية من أن يتحقق! وفي الوقت الذي يبدو فيه الخيار الأول مستحيلًا، إلا أن الحذر واجب أمام احتمالات مفاجئة قد تمنح إسرائيل أوراقًا جديدة للعب.

لقد مثلت حركة فتح ومنذ انطلاقتها التعبير الأوضح للنهج الكفاحي الوطني الفلسطيني في مواجهة الاحتلال ومخططاته، ومع ذلك، لم يعد مجرد الاتفاق على ذلك كافيًا إن لم يتحول إلى رؤية استراتيجية تتجاوز ضعف الأداء الراهن وتعالج التناقضات الداخلية، وعلى رأسها الانقسام مع حركة حماس. ولعل الانعتاق من هذا المأزق الذي ضرب المشروع الوطني التحرري في خاصرته يتحقق في ضبط إيقاع المقاومة وضمان استمراريتها وهذا مرهونٌ ـ ولنؤكد ما سبق ذكره ـ مرهون بالقيادة القادرة على الفعل الإبداعي، قيادة تعيد ثقة الجماهير التي كانت ترى في الحركة التعبير الصادق عن إرادتها.

إن سنوات الانكسار التنظيمي والسياسي داخل فتح لم تكن مجرد أخطاء عابرة، بل نتاج إخفاقات متراكمة، فقد غابت الاستراتيجيات المقنعة التي تطمئن الشعب بأن التحرر ممكن، واستفحلت التناقضات الداخلية حتى بات من الصعوبة تجاوزها، خصوصًا بعد انتخابات 2006 وفشل إعادة غزة إلى منظومة المشروع الوطني، إلى جانب ضعف القيادة التي أنتجتها المؤتمرات السابقة، وعجزها عن العمل الجماعي، وتحول الحركة تدريجيًا إلى إطار محافظ منشغل بالحفاظ على مكتسبات السلطة بدل استعادة المبادرة الكفاحية مما حدا بالشباب الفلسطيني إلى ابتكار مقاومة فردية بلا إطار جامع أو قيادة، كاشفًا مساحة الفراغ التنظيمي.

في ظل هذا الواقع المتردي نرى أنه لا خيار للحركة سوى العودة إلى مربع الانطلاقة الأول والبناء على المنجز الثوري وتأكيد مشروعها الكفاحي، وإعادة بناء جسور الثقة مع الجماهير، وتوحيد الصفوف حول التناقض الرئيسي مع الاحتلال، واستعادة روح المبادرة بعيدًا عن النزاعات الثانوية، وإصلاح الأطر التنظيمية وتجديد الكادر، وتفعيل آلية النقد والنقد الذاتي والمحاسبة بعيدًا عن المحاباة والتحزبات الضيقة.  وإذا ما توافرت الإرادة نؤمن بأن حركة فتح قادرة على استعادة دورها التاريخي إذا عادت لمشروعها الكفاحي المقاوم بكافة أشكال المقاومة التي كفلتها الشرائع الدولية، وبنت جسور الثقة مع الجماهير، ووحدت صفوفها حول التناقض الأساسي مع الاحتلال، بعيدًا عن النزاعات الثانوية وذلك من خلال إعادة بناء الأطر التنظيمية وتجديد الكادر، والعودة إلى النقد الذاتي ومحاسبة الذات بعيدًا عن المصالح الشخصية والمحاباة، لتصبح العلاقة بين الشكل والمضمون مركزية؛ فليست المؤتمرات الضخمة معيارًا لنجاح الحركة بقدر ما يهم المضمون القادر على ترسيخ القضية الوطنية في وجدان الشعب.

خلاصة القول؛ في ظل تسارع التحولات على الصعيد الدولي والإقليمي، واختلال ميزان القوى، فإن المآلات تفرض تبني نموذج مقاومة وطنية شاملة وتعبئة جماهيرية، مستلهمة في واحد ومن أشكالها من تجارب الهند وجنوب أفريقيا بما يشمل مظاهرات وإضرابات وعصيان مدني ولجان حماية القرى، إلى جانب تطوير خطاب إعلامي يصل إلى العالم يكشف الفاشية الإسرائيلية ويدحض روايتها وكذلك التقاط اللحظة التاريخية والبناء عليها في تضامن الرأي العام العالمي مع فلسطين بعد السابع من أكتوبر والمقتلة والتطهير العرقي والإبادة في غزة والضفة الفلسطينية، والعمل على إطلاق مشروع إعلامي عالمي، ومراجعة الاتفاقيات الاقتصادية ومقاطعة منتجات المستوطنات، وإطلاق استراتيجية ثقافية تعالج التاريخ والفكر والفن لمواجهة الرواية الصهيونية.

 أما على الصعيد الفلسطيني فمن الضروري توحيد القوى الوطنية ضمن مشروع مقاوم موحد، وتجديد شرعيات الحركة ومنظمة التحرير والسلطة، وبناء مؤسسات قادرة على تلبية احتياجات الشعب، ومتابعة ملفات الاحتلال في المحاكم الدولية، وتشكيل لجنة وطنية لاختيار القيادات المؤهلة بعيدًا عن المحسوبيات.

إن المرحلة تتطلب قيادة تمتلك الإرادة السياسية والنضالية، ملتزمة باستراتيجية وطنية شاملة، قادرة على إعادة الحركة والمنظمة إلى دورهما التاريخي في قيادة المشروع الوطني، فلا مستقبل لفتح، ولا للمشروع الوطني الفلسطيني، دون قيادة جادة تستعيد إيمانها بحتمية النصر، وتلتحم بالجماهير وتعود إلى جذور الثورة، لتعود فتح سيرتها الأولى ولما انطلقت من أجله: ثورة حتى النصر والتحرير لا مجرد إدارة للواقع أو سلطة تقليدية تحت الاحتلال لا تمتلك لقرارها سيادة.

 

 

 

 

Loading...