
بدأ ترمب ولايته بلا استراتيجية واضحة "استراتيجية البهلوان" هدفها تغيير العالم واللعب بالخرائط والتاريخ والجغرافيا ومصائر الدول والشعوب، وافق على مبدأ تغيير الحدود الموروثة من الحرب العالمية الثانية بالقوة، ومؤخراً أعلن عن استراتيجيته الجديدة والتي تتمحور بالعزلة بعد أن أنهى ثمانية حروب وعم السلام بالعالم، وكيف لهذا العالم أن ينعم بالسلام طالما في كل ثانية قرار تفرضه المصالح والأطماع للعبة دولية لا تنتهي!!، بعدما أعلن ترمب غزة ريفييرا الشرق الأوسط وضبط الحرب فيها وفق مبادرته للسلام أصبحت غزة في طي النسيان والعالم مشغول كلٌ بحاله، فالقتل والمجازر لم تتوقف بل اتخذت شكلاً جديداً من الابادة المتقطعة التي تفتك بـأرواح الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية، وصنع السلام في الشرق الأوسط لأول مرة منذ 3000 عام، ليدخله في السلام الأبدي، وينظر له بعيون إسرائيلية توراتية فضلاً عن المصالح الأمريكية؟!!، كمن يريد أن يقدمه هدية لأولئك البرابرة "الإسرائيليون"، يعطى ما ليس له إلى من لا حق له، وما أثمن هداياه!! ترمب وهب الجولان لإسرائيل، "لم يجرؤ على فعلها أحد لكنني فعلت، واكتشفت مدى قيمتها تساوي تريليونات الدولارات على أن أطلب شيئا بالمقابل"، هذا ما نطق به لسان رئيس أقوى دولة في العالم، ترمب لا يفكر الا بالمال يومياً وكل ساعة تصريحات جدلية ومثيرة له، يقفز عبر لسانه إلى صنع حالة القادر، لا بل محققها، فإلى أين تأخذنا وتأخذ العالم بأسره يا ترمب؟
ترمب يدفع العالم إلى حافة حرب عالمية ومتغيرات كبرى تتهيأ لحدوثها، فالعالم على صفيح ساخن والاستعدادات تجري بوتيرة متصاعدة، فالسلوك الاستفزازي لترمب لا يؤدي إلا إلى صب الزيت على النار بعد أن أصبحت أمريكا وحلفائها أكبر ممول للحروب في العالم بشكل صريح وعلني، مخاطر الحروب تهدد العالم ولم تعد فقط بالشرق الأوسط، حرب في فنزويلا ولكن تداعياتها الجيوسياسية يمكن أن تطال الحدود الأمريكية الجنوبية وربما الأراضي الامريكية نفسها التي بقيت محصنة طوال عقود من الحروب الأمريكية المجنونة في العالم، واذا اتسعت المعارك قد تتدخل كولومبيا المتأثرة بحكم عسكرة البحر الكاريبي وكذلك البرازيل ودول أخرى وخصوم أمريكا لإسقاط عدوهم، وقد يتزامن الهجوم الأمريكي على فنزويلا مع الهجوم الإسرائيلي على لبنان وإيران، ولكنهم لن يكونوا وحدهم في الحرب فالخطر يداهم الجميع ويهدد الأمن الاقليمي لغرب أسيا وشرق المتوسط وبالتالي المعادلات والتحالفات ستتغير بين لحظة وأخرى، فلا عجب أن يكون دور للصين وروسيا وباكستان وتركيا وربما سوريا في المواجهة، وشرارة الحرب بين تايلاند وكمبوديا قد تشعل بأي لحظة، وفي بحر الصين التنين يعد العدة على نار هادئة لإعادة تايوان إلى حضن الوطن وكل ما تحاول فعله أمريكا بدعم تايوان عسكرياً ليس له أي قيمة استراتيجية، وماذا يخبئ ترمب لأوكرانيا وأوروبا؟؟
أوكرانيا أصبحت غير أطلسية "وقد تصبح روسية يوماً ما"، بلا عجب مع انضمام أربع مقاطعات أوكرانية لروسيا هذه الصفقة التي يقترحها ترامب تنازل أوكرانيا عن بعض أراضيها، وأوروبا عارية تماماً غير قادرة على مواجهة روسيا لعدم تمكنها من سد الفراغ الذي سيحدثه الانكفاء الأمريكي، فكل الدلائل تشير أن الحرب في أوكرانيا انتهت وروسيا منتصرة باستيلاء بوتين على ربع أوكرانيا والجيش الروسي متقدم على جميع الجبهات وروسيا تستعد للاحتفال بالنصر في 24 شباط بالتزامن مع ذكرى اندلاعها، تقارير الجبهة الأوكرانية تؤكد أن الجيش الأوكراني يقترب من الانهيار وأن روسيا اتبعت تكتيك انهاك الجيش واستنزافه حتى بات عاجزاً عن مواصلة الحرب وارتفعت معدلات الهروب بصورة مضاعفة ولن تجدي جهود الدعم الأوربي في رفع جهوزيته لتغيير مسار الحرب، وروسيا لن تتنازل عن الأراضي التي احتلتها في شرق أوكرانيا وجنوبها الشرقي بل تريد منطقة الدونباس التي لم تستطيع دخولها حتى الآن، أوروبا في مأزق كبير مع اعلان ترمب عن استراتيجيته الجديدة والتي لا تعتبر روسيا تشكل تهديداً مباشراً لأمريكا، لا بل حث على التعاون معها في قضايا الاستقرار الاستراتيجي، فترمب وأجندته من الغرب يدعم أحزاب اليمين المتطرف التي تتصاعد في أوروبا والتي تهدد مستقبل الاتحاد الأوروبي في ظل تشكيك تلك الأحزاب فيه، وتهديد بوتين من الشرق يعمق المخاوف بشأن المرحلة المقبلة مع غياب اصطفاف أوربي واضح وقيادة قادرة على الدفاع عن المصالح الأوربية، اذا انهارت محادثات السلام في أوكرانيا ستتوسع الحرب تجاه الغرب واذا انتصر بوتين سيصل المد الروسي إلى شرق أوروبا "حلم القيصر".
حالياً هناك تباينات وخلافات عميقة بين الدول الأوربية التي بدت تأن تحت ثقل المساعدات إلى أوكرانيا سواء العسكرية أو غيرها، دفعها لإلغاء التصويت بالإجماع إلى التصويت بالأغلبية في قرارات الاتحاد الأوربي ورفض 6 دول مصادرة الأصول الروسية، لتجد أوروبا نفسها محصورة في زاوية وعجزها في حسم التهديدات الوجودية بينما اقتصادها ينهار بسرعة بما ينذر بانهيار أوربي لم تر مثيلاً له من قبل، فنحن ازاء لحظات فاصلة سيكون مصير أوكرانيا وأوروبا مفصلياً وربما أشد سوءاً، "ألمانيا ليست دولة هامشية حتى تركل ككرة القدم بين القوى الكبرى"، فالدولة التي كنت الخصم في الحربيين العالمتين لن ترضخ وتتفرج على التغييرات بينما يعاد ترتيب النظام الجديد، لذلك تحاول أوروبا أن تبحث في خياراتها الاستراتيجية والتغلب على التحديات الاقتصادية من أجل معالجة المشكلات السياسية، وفرض الاستقلالية الاستراتيجية الأوربية عن الولايات المتحدة الأمريكية ورفض التبعية المطلقة لها بعد تقليص التزامات أمريكا تجاه الناتو والدفاع الأوربي والتلميح بالانسحاب من الحلف، وسط تزايد تهديدات التحالف العسكري بين روسيا والصين وكوريا الشمالية لمواجهة سياسة الاحتواء التي تنتهجها أمريكا.
ترمب منذ ولايته الأولى موقفه سلبياً من الدول الأوربية ومن حلف الناتو الذي كان يعتبره من بقايا الحرب العالمية الثانية، ولكن لأمريكا مصالح استراتيجية كبرى مع الدول الأوربية، والناتو لا يزال الذي يمثل حجر الأساس بالنسبة للترتيبات الأمنية في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية والقاعدة التي يمكن لأمريكا الاستناد إليها في مواجهة القوى المنافسة والتي باتت قريبة جداً، ترمب الذي يقدم نفسه كرجل سلام في عالم يفترض أن تكون البشرية عبيداً لإمبراطوريته أو مملكته، يحذر بأن الحرب العالمية الثالثة ليست بعيدة، فثمة حرائق تنتظره وامبراطوريته أشد من الحرائق التي يشعلها في العالم، ومن يدري ربما هو من يضع نهاية أمريكا العظمى والبشرية عموماً!!.