فتح: من تشخيص الأزمة إلى هندسة الفعل الوطني الجامع "2"

 

 

 

 

 

إذا كان تشخيص الأزمة شرطًا لازمًا لأي مشروع نهضوي، فإن ما تعانيه حركة فتح اليوم لم يعد مقتصرًا على ضعف الأداء أو تآكل الثقة الجماهيرية، بل تجاوز ذلك إلى أزمة وظيفية ودور، ولم يعد بخافٍ على المراقب انفصال البنية التنظيمية للحركة عن مهمتها التاريخية وهدفها في التحرر من ربقة الاحتلال الصهيوني وتحرير فلسطين من النهر إلى البحر ـ وهو الهدف الذي انطلقت رصاصة الثورة تحت شعاره ـ كما وتراجعت قدرتها على الفعل الوطني الجامع لصالح منطق إدارة الأزمة بدل الاشتباك معها. من هنا، فإن استعادة فتح لسيرتها الأولى لا يمكن أن تتم عبر إعادة إنتاج الخطاب ذاته، بل عبر انتقال جذري من منطق التكيّف مع الواقع المفروض إلى منطق تغييره. وعليه، نرى أنه لا يمكن قراءة أزمة حركة فتح بمعزل عن أزمة المشروع الوطني برمته، ولا فصل معركة التحرر من الاحتلال عن معركة التحرر من اختلالات الداخل التي أضعفت المناعة الوطنية وبددت الثقة بين الحركة وجماهيرها. وعمومًا، فإن المواجهة مع الاحتلال ومقاومته لا يمكن أن تكون فاعلة في ظل بنى تنظيمية مترهلة وفساد غير محاسَب وقيادة عاجزة عن إنتاج رؤية جامعة أو استنهاض طاقات الشعب. كما أن أي إصلاح داخلي يفقد معناه إن لم يكن موجّهًا بوصلةً نحو التناقض المركزي والرئيسي مع الاحتلال.

ففي تجارب الشعوب كافة لم تكن الثورة فعلًا جامدًا أو وصفةً صالحة لكل الأزمنة، بل كانت دومًا فعلًا حيًا، يوائم الواقع ويتشكّل وفق شروطه، وينكفئ إن عجز عن مواكبة تحوّلاته، ولا نجانب الصواب إن قلنا إن الثورات عمومًا تشوبها حالات جزرٍ ومد.

من هنا، لم يأتِ الحديث عن الإصلاح والتغيير في منهج الثورة ترفًا فكريًا، بل ضرورةً وجودية أدركها مفكرون ومناضلون خاضوا التجربة واستشرفوا مآلاتها بوعيٍ نقدي صارم.

فالثورة، كما رآها بعض منظّري حركات التحرر، ليست مجرد مواجهة عدو ومقاومته، بل أيضًا صراع مع استبداد القيادة في التنظيم، وكذلك مع تحوّل هذه القيادة من أداة تحرر إلى غاية بحد ذاتها. وفي هذا السياق حذّر مفكرون كفرانز فانون من أن (الثورة التي لا تُخضع ذاتها للمراجعة سرعان ما تُنتج نخبة جديدة تعيد إنتاج القهر، ولو بشعارات وطنية براقة، فخطر ما بعد التحرر ـ في نظره ـ لا يقل عن خطر الاحتلال نفسه حين تُفرغ الثورة من بعدها الإنساني وتتحول إلى سلطةٍ مغلقة.)

وفي ذات السياق، شدّد المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي على أن (الصراع الحقيقي لا يُحسم بالسلاح وحده، بل في ميدان الوعي والثقافة، فالثورة التي لا تُجدد خطابها ولا تعيد بناء علاقتها بالمجتمع ولا تلتفت للجماهير وهمومهم، تُهزم من داخلها قبل أن يهزمها خصومها.)

أما التجربة الثورية في بعدها التنظيمي، فقد أبرزت لدى قادتها التاريخيين ضرورة النقد والنقد الذاتي لا بوصفه فعلًا شكليًا، بل سلوك ومنهج. وفي هذا الجانب حذر ماو تسي تونغ من أن (الثورة التي تتوقف عن مساءلة ذاتها تتحول إلى جهاز بيروقراطي منفصل عن الناس، وأن الانفصال عن الجماهير هو بداية النهاية لأي مشروع تحرري.)

ومن زاوية حضارية أعمق، قدّم المفكر الجزائري مالك بن نبي قراءة مختلفة إذ عزا (فشل الثورات بعجزها عن إصلاح المنهج قبل تغيير الواقع ـ وبرأيه ـ فإن المشكلة لا تكمن فقط في الاستعمار أو القهر الخارجي، بل في القابلية الداخلية للجمود وغياب المشروع الأخلاقي والفكري القادر على حماية الثورة من التآكل.)

من هنا نرى أن التكتيك الثوري لا يمكن أن يُختزل في قالب واحد، وأن المرونة ليست ضعفًا، بل شرطًا للفعل الثوري الناجح، فالثورة التي تعجز عن تغيير أدواتها وفق تغيّر الظروف تفقد قدرتها على القيادة وتتحول من طليعة إلى عبء.

وفي التجربة الفلسطينية، لم يكن هذا النقاش غائبًا، فالثورة الفلسطينية منذ انطلاقتها وعت أن السياسة التعبوية والتنظيم وبناء الإنسان لا تقل أهمية عن الفعل المسلح، وقد عبّر الشهيد القائد ياسر عرفات في خطاباته وممارسته عن هذه القناعة حين أكد أن (الثورة ليست بندقية فقط، بل مشروع شعب بأكمله يحتاج إلى التطوير المستمر كي لا يفقد روحه.)

ولعل أخطر ما يواجه أي ثورة ليس الهزيمة العسكرية، بل تحوّلها إلى تابو مقدس لا يجوز نقدها، فالنقد في سبيل الإصلاح ليس تراجعًا عن المبادئ بقدر ما هو حماية لهذه المبادئ من التحلل، وحين تصبح الثورة عاجزة عن التجدد، فإنها تفسح المجال لخصومها أو لبدائل مشوّهة تحمل اسمها وتفرغها من معناها.

إن أي حديث عن تجديد الحركة يظل قاصرًا ما لم يُقرن بإرادة سياسية واضحة لمواجهة الفساد باعتباره أحد أخطر أشكال تقويض المشروع الوطني، لا لأنه خلل أخلاقي فحسب بل لأنه أداة تفكيك داخلية موازية لأدوات الاحتلال، فالفساد حين يتحول إلى نمط حكمٍ يفرِّغ النضال من مضمونه ويعيد توجيه طاقة التنظيم من مقاومة الاحتلال إلى حماية الامتيازات، وهو ما يستدعي تبني مقاربة نضالية ترى في مكافحة الفساد فعلًا وطنيًا لا يقل أهمية عن مقاومة الاستيطان والحصار والاحتلال بمجمله.

وهنا لا بد من التأكيد على أن آليات التغيير المطلوبة لا تبدأ من القمة وحدها، ولا تُختزل في مؤتمرات أو تغييرات شكلية، بل تنطلق من إعادة تعريف العلاقة بين القيادة والقاعدة على أساس الشراكة والمساءلة، فالحركة التي لا تسمح لقواعدها بمراقبة قياداتها ولا تفتح المجال أمام التداول الديمقراطي الحقيقي، محكومة بإعادة إنتاج أزمتها مهما بدّلت وجوهها. وعليه، فإن تفعيل آليات المحاسبة الداخلية واستقلال لجان الرقابة وربط المسؤولية التنظيمية بالإنجاز الوطني لا بالولاء الشخصي، يشكل مدخلًا أساسيًا لاستعادة ثقة الجماهير بالقيادة. فابتكار آليات نضالية جديدة في هذه المرحلة يفرض تكامل الثنائية التقليدية بين المقاومة المسلحة والعمل السياسي لخلق نموذج مقاومة مركّبة، تُفعّل الاشتباك الشعبي المنظم، وتحوّل القرى والمخيمات إلى ساحات مقاومة يومية عبر لجان حماية وتصدي لهجمات المستوطنين وابتكار ومساندة المبادرات الشعبية المقاوِمة على كافة الصعد مما يربك الاحتلال ويستنزف أدواته.

إن استعادة الدور التاريخي لحركة فتح تمر حتمًا عبر شجاعة الاعتراف بأن الأزمة بنيوية، وأن معالجتها تتطلب قرارات حاسمة تبدأ بفصل السلطة عن الحركة وتحرير القرار الوطني من قيود التنسيق والالتزامات التي كبّلت الفعل النضالي وصولًا إلى إعادة بناء منظمة التحرير على أسس تمثيلية حقيقية.

خلاصة القول؛ إن التحدي الذي يواجه حركة فتح اليوم ليس في قدرتها على البقاء، بل في قدرتها على إعادة هندسة ذاتها كحركة تحرر وطني تقود مشروعًا مقاومًا جامعًا، نظيف اليد، واضح البوصلة، وإلًا فستواصل التآكل التدريجي تاركة فراغًا لا يملؤه إلا مزيد من الفوضى والتضحيات غير المؤطرة. وهنا لا بد من التأكيد على أن استعادة روح فتح الكفاحية لا تمر عبر الشعارات ولا عبر إعادة تدوير الوجوه ذاتها، بل عبر تأسيس عقد وطني جديد داخل الحركة، يعيد تعريف القيادة بوصفها تكليفًا نضاليًا لا امتيازًا سلطويًا، ويُخضع القرار السياسي والتنظيمي لمنطق المحاسبة والشفافية، ويعيد الاعتبار لدور القاعدة الحركية والشباب والمرأة والكفاءات المهمّشة.

وفي السياق ذاته، فإن لمّ الصف الوطني لا يمكن أن يتحقق عبر صيغ شكلية أو تفاهمات فوقية هشة، بل من خلال بناء مشروع نضالي جامعٍ يعترف بالتعددية السياسية ويضبطها ضمن برنامج مقاومة متفق عليه، يعيد توحيد ساحات الاشتباك ويمنح الفعل الشعبي المنظم دورًا مركزيًا في المواجهة. فالوحدة ليست ترفًا سياسيًا بل أداة نضالية، وكل تأخير في إنجازها يمنح الاحتلال زمنًا إضافيًا لتكريس وقائعه الاستعمارية.

أما على مستوى الفعل النضالي والاشتباك مع الاحتلال، فإن المرحلة تفرض الانتقال من ردّ الفعل إلى المبادرة، ومن المقاومة الفردية المعزولة إلى مقاومة شعبية منظمة، تحميها بنية تنظيمية صلبة وتغذّيها رؤية سياسية واضحة تتكامل فيها أشكال النضال الميداني والسياسي والقانوني والإعلامي.

وعليه، فإن الرهان الحقيقي لا يكمن في إنقاذ حركة فتح بوصفها إطارًا تنظيميًا فقط، بل في استعادة دورها كرافعة للمشروع الوطني التحرري القادر على توحيد الشعب حول هدف واضح وبرنامج مقاوم وقيادة تمتلك الجرأة على المراجعة والإرادة على التغيير والاستعداد لدفع استحقاقات المواجهة.

ولعل اللحظة التاريخية التي تكشّفَ فيها الوجه الفاشي للاحتلال أمام العالم وتعاظُم فرص إعادة بناء التضامن الدولي مع القضية الفلسطينية، تبدو المسؤولية مضاعفة على فتح ومنظمة التحرير وكل القوى الوطنية؛ فإما التقاط اللحظة وصياغة مشروع تحرري متجدد، أو ترك التاريخ يكتب فصلاً جديدًا من الإخفاق. فالثورات لا تُقاس بعمرها الزمني بل بقدرتها على التجدد، وفتح ـ إن امتلكت الشجاعةـ ما زالت قادرة على أن تكون طليعة وطنية وثورة مستمرة، لا ظلّ سلطة وإدارة مؤقتة تحت سقف الاحتلال.

ومن هنا، فإن أي رؤية للتجديد تبقى ناقصة إن لم تقترن بآليات فعلية للملمة الصف الوطني وتفكيك منظومات الفساد وبناء نموذج نضالي متكامل يخوض معركة التحرر الوطني على جبهتين متلازمتين: جبهة مقاومة الاحتلال وجبهة تصحيح الداخل.

لقد أثبتت التجربة أن الاحتلال يستثمر بعمق في الانقسام الفلسطيني، ويغذّي هشاشة البنى السياسية والتنظيمية، فاستعادة فتح لدورها التاريخي تمر حتمًا عبر إعادة تعريف العلاقة بين الحركة والسلطة، وبين القيادة والقاعدة، وتكريس مبدأ أن الشرعية تُستمد من الالتصاق بالجماهير، لا من مواقع النفوذ أو توازنات المصالح، وأن المقاومة ليست شعارًا، بل ممارسة منظمة متعددة الأشكال ومحمية بإجماع وطني.

أما على مستوى الخطاب، فإن فتح مطالبة بالعودة إلى مربع الثورة الأول وبما يتواءم مع المتغيرات على الصعيد الفلسطيني والإقليمي والعالمي دون التخلي عن جوهرها، خطاب يخاطب الداخل الفلسطيني بصدق وجرأة، ويخاطب العالم بلغة الحقوق والقانون مستثمرًا التحولات الجارية في الرأي العام العالمي دون الوقوع في وهم الرهان على الخارج أو الارتهان له، فالمقاومة الإعلامية والثقافية اليوم لم تعد هامشية، بل باتت ساحة مركزية من ساحات الصراع.

في المحصلة، يبقى المستقبل مفتوحًا على أكثر من احتمال، لكن المؤكد أن لا خلاص وطني دون مشروع تحرري موحد، ولا مشروع تحرري دون فتح ـ كحركة تحرير وطني فلسطيني على اختلاف ما يحمله منتموها من فكر وأيديولوجياـ حركة متجددة جذرية في مواقفها نظيفة في بنيتها ومشتبكة بوعي ومسؤولية مع الاحتلال ومع ذاتها في آنٍ معًا. فإما أن تستعيد فتح روح الثورة وتستأنف دورها التاريخي، أو يبقى المشهد الفلسطيني رهينة التآكل والانقسام على حساب شعب يدفع يوميًا ثمن الاحتلال دمًا وصمودًا وكرامة.

 

 

 

لقراءة الجزء الأول على الرابط التالي: https://www.masar.ps/ar/Article/3256

 

 

 

كلمات مفتاحية::
Loading...