قراءة في مآلات المشهد السوري الراهن

 

 

 

 

في ضوء ما تشهده سوريا اليوم من تطورات متسارعة ومتزامنة في أكثر من جبهة داخلية، تبدو البلاد وكأنها تقف مجددا على حافة تحوّل تاريخي لا يقل خطورة عما عاشته منذ عام 2011. أحداث اللاذقية في الشمال الغربي، وما يرافقها من توترات واحتجاجات غير مسبوقة في بيئة اعتُبرت لسنوات طويلة خزانًا اجتماعيًا للنظام، وحالة اللااستقرار المتصاعدة في مناطق الدروز في الجنوب، إلى جانب تحركات الأكراد في الشمال الشرقي وتعثر مسار اندماجهم في الدولة المركزية، تشكل معا لوحة واحدة تتقاطع فيها الأزمات المحلية مع سؤال مركزي كبير: هل ما تزال سوريا قادرة على البقاء دولة موحدة بصيغتها التقليدية، أم أنها تتجه، بوعي أو من دونه، نحو إعادة تشكيل نفسها على أسس فدرالية أو حتى طائفية ومناطقية؟

ما يجري في اللاذقية والساحل لا يمكن فهمه بوصفه احتجاجا معيشيا عابرا أو انفلاتا أمنيا محدودا. فهذه المنطقة، التي ارتبطت تاريخيا بمركز السلطة، بدأت تشهد حالة تململ عميقة تعبر عن شعور متراكم بالخذلان والخسارة. سنوات الحرب الطويلة، والعقوبات، وتدهور الاقتصاد، وتآكل الطبقة الوسطى، كلها عوامل أفرغت العلاقة بين الدولة ومجتمعها من مضمونها القديم القائم على الحماية مقابل الولاء. ومع غياب الأفق الاقتصادي والسياسي، ظهرت مطالب تتجاوز تحسين الخدمات إلى الدعوة للامركزية الواسعة، بل وطرح الفيدرالية كصيغة حماية جماعية في ظل الخوف من المستقبل، والخشية من تحميل الساحل كلفة سياسية وأخلاقية عن حرب لم تعد نتائجها تصب في مصلحة سكانه. هذه المطالب، حتى وإن لم تكن جامعة أو منظمة، تعكس تحولا عميقا في الوعي السياسي لدى شريحة لطالما عُدت خارج دائرة الاحتجاج.

وفي الجنوب السوري، وتحديدا في مناطق الدروز، يتخذ المشهد شكلًا مختلفا من حيث الأدوات، لكنه يلتقي في الجوهر مع السياق نفسه. فالسويداء تعيش منذ سنوات حالة من التوتر المزمن بين مجتمع محلي يحاول حماية خصوصيته وكرامته، وسلطة مركزية عاجزة عن تقديم الحد الأدنى من الأمن والخدمات. الاحتجاجات هناك بدأت اجتماعية واقتصادية، لكنها سرعان ما اكتسبت بعدا سياسيا، مع تصاعد الخطاب الرافض للتهميش والمطالب بإدارة ذاتية للشؤون المحلية، أو على الأقل توسيع صلاحيات الإدارة المحلية بما يحفظ توازن العلاقة مع دمشق. ورغم أن الغالبية الساحقة من القيادات الدينية والاجتماعية الدرزية ترفض صراحة الانفصال، إلا أن استمرار الفراغ الأمني وانتشار السلاح وتنامي دور الزعامات المحلية يخلق واقعا شبه مستقل بحكم الأمر الواقع، يضعف أكثر فأكثر سلطة الدولة المركزية، ويفتح الباب أمام سيناريوهات يصعب التحكم بمساراتها لاحقا.

ولا يختلف الوضع كثيرا في الشمال الشرقي، حيث أن القضية الكردية تبقى الأكثر وضوحا وتنظيما في تحديها لشكل الدولة السورية. فالإدارة الذاتية التي نشأت في ظل الحرب، واستفادت من الدعم الدولي في مواجهة تنظيم داعش، تحولت إلى كيان سياسي وعسكري يمتلك مؤسسات وخطابا وهوية خاصة. ومع أن الخطاب الرسمي الكردي يؤكد مرارا على وحدة سوريا، إلا أن الخلاف الجوهري مع دمشق يتمحور حول طبيعة هذه الوحدة: هل هي وحدة مركزية صارمة تعيد إنتاج ما قبل 2011، أم وحدة مرنة تعترف بخصوصية المناطق وتمنحها صلاحيات واسعة في الإدارة والثقافة والأمن؟ تعثر مفاوضات دمج قوات سوريا الديمقراطية في الجيش السوري، وتباين الرؤى حول الدستور والموارد، يعكسان عمق هذه الفجوة، ويجعلان الشمال الشرقي نموذجا قائما بذاته لدولة داخل الدولة، حتى وإن لم يُعلن ذلك رسميا.

القاسم المشترك بين هذه الملفات الثلاثة ليس الطائفية بحد ذاتها، بل أزمة الثقة العميقة في نموذج الدولة المركزية. فالسوريون، بمختلف انتماءاتهم، لم يعودوا يرون في المركز السياسي ضامنا لمصالحهم أو مستقبلهم، بل عبئا عاجزا عن تلبية الحد الأدنى من تطلعاتهم. وعندما تغيب الدولة بوصفها إطارًا جامعا وعادلا، تتحول الجماعات المحلية، الطائفية أو الإثنية أو المناطقية، إلى ملاذ بديل، وتبدأ المطالبة بصيغ حكم تضمن الحماية والتمثيل ولو على حساب الوحدة الوطنية.

في هذا السياق، تبرزعدة سيناريوهات محتملة لمآلات الوضع السوري. السيناريو الأول، وهو الأقل كلفة والأكثر عقلانية نظريا، يتمثل في التوصل إلى صيغة لامركزية موسعة ضمن دولة موحدة، تقوم على إعادة صياغة العقد الاجتماعي والدستور بما يمنح المحافظات والمناطق صلاحيات حقيقية في الإدارة والاقتصاد والخدمات، مع الحفاظ على السيادة والجيش والسياسة الخارجية بيد المركز. هذا السيناريو يتطلب إرادة سياسية حقيقية، وتنازلات مؤلمة من جميع الأطراف، إضافة إلى ضمانات داخلية وخارجية، وهو ما يجعله صعب التحقيق لكنه ليس مستحيلًا إذا ما توافرت ضغوط دولية وإقليمية متوازنة.

السيناريو الثاني يتمثل في الذهاب نحو فدرالية معلنة، سواء على أساس جغرافي أو إثني-ثقافي، وهو خيار يلقى قبولًا لدى بعض القوى المحلية، خصوصا في الشمال الشرقي، لكنه يواجه رفضا واسعا لدى شرائح كبيرة تخشى أن تكون الفدرالية بوابة لتقسيم فعلي، خاصة في بلد لم يتعافَ بعد من جراح الحرب ولم تتشكل فيه هوية وطنية جامعة قادرة على احتواء التنوع ضمن مؤسسات قوية. الفدرالية في السياق السوري قد تتحول، في ظل موازين القوى الحالية، إلى إعادة توزيع للنفوذ الإقليمي أكثر مما هي حل وطني داخلي.

أما السيناريو الثالث، وهو الأخطر، فيتمثل في استمرار الوضع الراهن بكل تناقضاته، مع تصاعد الأزمات الاقتصادية والأمنية، وتحول اللامركزية الواقعية إلى أمر واقع غير منظم، تسيطر فيه قوى محلية على مناطقها دون إطار قانوني جامع. في هذا السيناريو، لا يحدث إعلان تقسيم رسمي، لكن سوريا تتحول عمليا إلى فسيفساء كيانات منفصلة في القرار والولاء، ما يفتح الباب أمام صراعات داخلية جديدة وتدخلات إقليمية أوسع، ويجعل إعادة بناء الدولة أكثر تعقيدًا مع مرور الوقت.

لا يمكن فصل هذه السيناريوهات عن العامل الخارجي، فالجغرافيا السياسية لسوريا تجعلها ساحة مفتوحة لتقاطع المصالح الإقليمية والدولية. تركيا تنظر بعين القلق إلى أي كيان كردي مستقل أو شبه مستقل، إيران تسعى للحفاظ على نفوذها الاستراتيجي عبر مركز قوي في دمشق، وروسيا ترى في وحدة الدولة السورية ضمانا لمصالحها العسكرية والسياسية، بينما تتعامل الدول الغربية ببراغماتية تركز على الاستقرار ومكافحة الإرهاب أكثر من اهتمامها بشكل الدولة النهائي. هذا التشابك يجعل أي حل داخلي مرهونا بتفاهمات خارجية، أو على الأقل بعدم معارضتها.

إن ما تشهده سوريا اليوم ليس مجرد أزمة أمنية أو سياسية عابرة، بل مخاض طويل لإعادة تعريف الدولة ذاتها. إما أن تنجح النخب السورية، بدعم أو ضغط خارجي، في صياغة نموذج جديد للدولة يعترف بالتنوع ويعيد الثقة بين المركز والأطراف، أو تستمر البلاد في الانزلاق نحو تفكك صامت، تدار فيه الجغرافيا بالوقائع لا بالدستور. وبين هذين الخيارين، يبقى الوقت عاملا حاسما، فكل يوم يمر دون حل جذري يرسخ الانقسامات ويجعل كلفة الوحدة أعلى، وربما أثقل مما تستطيع سوريا المستقبل تحمله.

 

كلمات مفتاحية::
Loading...