بما أن التسجيل الصوتي لجلسة جمعت في أغسطس/ آب 1970 بين الرئيس المصري جمال عبد الناصر والعقيد الليبي معمر القذافي قد حاز عند بثه مؤخرا كل هذا الاهتمام، وأعاد إلى حلبة النقاش الجدل القديم المتجدد بين «العقلاء» و«المزايدين» حول خياري الحرب والتسوية مع إسرائيل…
وبما أننا بتنا اليوم نحاول إقناع «الأحياء» بما سبق أن قاله «الأموات» رحمهم الله جميعا… فلا ضير أن نستحضر بدورنا ما كان قاله في هذا الشأن الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة قبل 60 عاما بالضبط في خطاب له في تونس في اجتماع «المجلس القومي» للحزب الحاكم «الحزب الاشتراكي الدستوري».
أهمية هذ الخطاب الذي ألقاه بورقيبة في 21 مايو/أيار 1965، والذي أحتفظ بنصه كاملا ضمن الوثائق الذي كان والدي حريصا على جمعها، أنه جاء في أعقاب جولة شرق أوسطية له ألقى خلالها خطابا شهيرا أمام اللاجئين الفلسطينيين في مدينة أريحا في 11 مارس/ آذار 1965 دعاهم فيه إلى قبول قرار الأمم المتحدة الصادر في 29 نوفمبر/ تشرين الثاني 1947 لتقسيم فلسطين بين دولة يهودية وأخرى فلسطينية، في انتظار تغير موازين القوى لصالحهم لاحقا ضمن شعاره الشهير «خذ وطالب».
أثار خطاب أريحا عاصفة هوجاء ضد بورقيبة فاتهم بالخيانة وخرجت المظاهرات الساخطة ضده، ولهذا فقد كان خطاب تونس بعد أقل من شهرين من خطاب أريحا بمثابة الرد على تلك الحملة التي تعرّض لها شارحا بإسهاب رؤيته في موضوع الحرب والسلم مع إسرائيل.
يعترف بورقيبة في خطابه المطوّل أنه «يفهم تماما أن اقتراح مثل هذا الحل القاضي بقبول قرار التقسيم فيه ما يجرح العاطفة العربية والشعور الوطني، لأن قبول هذا الحل يعني وجود شيء اسمه إسرائيل (…) لكنني عرضته باعتبار أننا إذا تحمّلنا هذه المضايقة فترة من الزمن، وكان في مقابلها دخول اللاجئين (الذين كانوا غادروا عند قيام إسرائيل عام 1948) فسرعان ما تتغيّر المعطيات ونستطيع إذ ذاك أن نبرم اتفاقا أو نحقق تعايشا تزول معه نزعة الغلبة والقهر والاستعمار، وإلا – وهذا هو المرجّح- ندخل المعركة لكن في ظروف أحسن بكثير من الملابسات الموجودة الآن».
وبنظرة ثاقبة من زعيم حقيقي، قال بورقيبة: «أتمنى أن أكون مخطئا في تقديراتي ولكن الأيام بيننا فبعد عام أو اثنين أو ثلاثة عشر أو عشرين أو مائة سيحكم التاريخ» مضيفا أن ما يضايقه فعلا «ليس عجز العرب في المشرق على محق إسرائيل، لكن ما أغتاظ له والله، هو فقدان نية صادقة لخوض الحرب ولتحرير فلسطين».
ومما قاله بورقيبة في خطابه أيضا أن «الأيام بيننا والدهر كفيل بأن يظهر المحق من المبطل والمخطئ من المصيب. وسيثبت التاريخ أن زعيما عربيا أراد أن يبعث القضية من مرقدها وأن ينقذها من التعفّن ويدفعها في طريق النجاح وأن يلعب اللعبة الكفيلة بإرجاع اللاجئين وتوريط إسرائيل على أساس متين وفي ظروف سياسية تضمن للعرب تأييد دول العالم كلها (…) لكن غباوة وغطرسة بعض المسؤولين أغلقت هذا الباب (…) وسيقول الفلسطينيون ذات يوم لو اتبعنا هذه الطريقة لكان من الممكن أن تحقّق لنا ما حققت لغيرنا» في إشارة منه إلى التدرّج الذي تبنّاه في كفاحه ضد الاستعمار الفرنسي ضمن ما كان يسميه «سياسة المراحل».
وأشار بورقيبة كذلك إلى أن ما يؤلمه هو «مصير الفلسطينيين الواثقين بعبد الناصر باعتباره مسؤولا عن أكبر دولة عربية تملك الطائرات والدبابات وتتحدى الأمريكان، وباعتباره انتصر على بريطانيا وفرنسا وعلى الدنيا كلها، لكن ما باله لم ينتصر حتى الآن على إسرائيل؟ لا ريب أنه سيقول لولا بورقيبة لانتهى الأمر»، ليخلص في النهاية إلى ما نرى اليوم حقيقته ماثلة أمام أعيننا وذلك حين قال «إذا ما استمر هذا التدجيل فلن يحاربوا إسرائيل ولن يتركوا الفلسطينيين يحاربونها خوفا من رد الفعل، ومما يجلبه لهم الفلسطينيون من بلاء إذا أقدموا على ذلك».
وفي نهاية خطابه قال «أتمنى من كل قلبي أن تنجح الخطة التي يريد أن يتّبعها المشرق، وأن تكلّل الحرب التي يلوّحون بها بالنصر، وإن كنت لا أؤمن بها لأنني أعرفهم، ولأنني جرّبتهم، وخبرت نفسيتهم».
استنتاج مؤلم دفعني ذات جلسة مع الأستاذ محمد حسنين هيكل في بيته في برقاش إلى سؤاله عما قيل وقتها من أن بورقيبة قبل أن يلقي خطابه في أريحا التقى بعبد الناصر ووضعه في صورة ما يعتزم قوله، وأن الرئيس المصري لم يكن له من اعتراض عليه، ولكن بعد أن هاج الشارع العربي ضد بورقيبة بسبب الخطاب لم يجد بورقيبة سنداً من عبد الناصر ذي النفوذ القوي على ذلك الشارع فتركه وحده يتلقى التنديد والشتائم.
لم ينكر هيكل هذه الواقعة لكنه حرص على توضيح أن استماع عبد الناصر وقتها لما كان ينوي بورقيبة طرحه لا يعني بالضرورة القبول به. لم يبدُ لي كلام هيكل مقنعاً بصراحة، وأحسست أن عبد الناصر إنما تخلى في الحقيقة عن دعم بورقيبة لاعتبارات تتعلق بزعامته العربية وقتها وشعاراتها الثورية وشعبيته الجارفة التي فضّلها جميعاً على واقعية بورقيبة، حتى وإن كان الفلسطينيون هم من دفعوا الثمن في النهاية… وما زالوا يدفعونه إلى اليوم.