من يقرأ ما في رأس ترمب الآن؟! لا استراتيجية واضحة، بل قفزات لبهلوان في البيت الأبيض، مادام ترمب يتعامل مع حلفائه ومع أعدائه بمنطق الأنا وما بعدي الطوفان، توماس فريدمان يرى في مقالة له نشرت في صحيفة نيويورك تايمز "الكثير من الأمور الجنونية تحدث كل يوم منذ توليه منصبه لدرجه أن بعض تلك الأمور الغريبة تماماً والمعبرة في الوقت ذاته بشكل لا يصدق تضيع في الضجيج، كل ما صنعته أمريكا منذ 1945 قد يذهب أدراج الريح إذا ما بقي ترمب يحكم أمريكا، العالم يرى أمريكا الآن دولة مارقة يقودها رجل قوي ومتهور، منفصل عن سيادة القانون والمبادئ المنصوص عليها في الدستور، ترمب يقوض سيادة القانون ويسعى لتجنب السجن وينتقم من أولئك الذين حاولوا محاسبته بأدلة حقيقية أمام القانون، يفرغ القوة الناعمة من محتواها ويطيح بحلفاء بلاده، ترمب ليس مفتاحاً لنقل أمريكا إلى القرن ال21، بل يهدد القيادة الاقتصادية والعالمية لأمريكا".
أساس الديمقراطية الأمريكية ليس الولاء لرئيس إنما الولاء للدستور، هناك تداول سلمي للسلطة وكل رئيس يكمل ما قبله، والولاء للدستور الأمريكي يعني التشدد على الامتداد الامبراطوري لوجود الولايات المتحدة، وتعزيز تفوق الرأسمالية الاقتصادية وسيادة رأس المال الأمريكي في العالم، ترمب أول رئيس في تاريخ أمريكا يعرقل الانتقال السلمي للسلطة، فكانت ضربة قاسية للديمقراطية الأمريكية، تلاحقه قضايا ومحاكمات ب88 جريمة أدين حتى الآن ب34 منها في وضع غير مسبوق لرئيس أمريكي، ورغم الابتذال وسوء الأخلاق والخلل الذي ميز ولايته الأولى وانتهت بتورطه في اقتحام الكونغرس عام2021، أعطت الدولة العميقة التي تكبح طموح أي رئيس يضر بالمصلحة الوطنية، الضوء الأخضر لفوزه خوفاً من ردة فعل أنصاره في حال خسارته، فهناك تجربة سابقة، مما يشير إلى خطر حدوث المزيد من العنف السياسي في البلاد، واحتمال التحول لحرب أهلية تؤدي إلى تفكك أمريكا من ولايات إلى دول مستقلة.
ترمب الذي يسعى للخلود، بعد نجاته من محاولة الاغتيال قال "لقد أنقذني الله حتى أجعل من أمريكا أمة عظيمة، أنا صانع سلام ووحدة"، ترمب في خططه الداخلية يرى العالم وأمريكا من منظار الامبراطور، يقلب كل شيء بالداخل الأمريكي وبالخارج وبالسرعة القياسية، محاولة لإرساء نهج جديد، واعطاء أمريكا فرصة لتتمكن من المنافسة لإعادتها كقوة صناعية وترتيب تحالفاتها، من الصعب الحكم على شيء "بمئة يوم"، ولكن الانطباع أن هذه الخطوات ستكون لصالح الاقتصاد الأمريكي فهذا يحتمل الرهان والمقامرة، أمريكا في بداية انتكاسة وتراجع، وعلى ترمب أن يوسع المنظار لأن العالم أكثر تعقيداً، بمنطق الامبراطور ورجل الدولة، البورصة الأمريكية خسرت بيومين ما يقارب 6 تريليون، مما اضطره لتعليق الرسوم "التي لم تستثني أحد"90 يوم تفادياً لزلزال مالي في أمريكا، حرب جيواقتصادية أعلنها ترمب، قام باستعداء المجتمع الدولي، وضع العالم أمام الطوفان الأمريكي بعد اعطاء أوامره بعملية جباية وفرض تعريفات جمركية عقابية على المنتجات المستوردة، وتوقيع أمر تنفيذي لإحياء صناعة تعدين الفحم، وقف تمويل عمليات تطوير التكنولوجيا النظيفة من ميزانيته، خرجه من اتفاقية باريس للمناخ ومن منظمة الصحة العالمية، فباتت الأحلاف القديمة مهددة بالتمزق والتصارع، والتوقع باحتضار النظام القديم، فيما صورة العالم الجديد لم تتضح على الرغم من سيادة سياسة القوة والتلاعب بمصائر الجغرافيا ومصائر الشعوب، فكيف لمثل ذلك يجعل أمريكا أقوى؟.
اسقاط كل مكاسب النظام بعد الحرب العالمية الثانية وبعد الحرب الباردة وراءه مخاطر كبيرة جداً، انتصر الأمريكيون بالحرب العالمية الأولى ثم بالحرب العالمية الثانية، ووجدت أمريكا نفسها مع المنتصرين الأوروبيين تتقاسم العالم مع الاتحاد السوفييتي مما أحدث تغييراً في مسار التاريخ، ومنذ الاعلان عن وثيقة الأمن القومي (68) في عام1950، "الدستور الأمريكي إلى الآن"، تمنع أمريكا بروز أي دولة أو مجموعة منافسة أو مؤثرة على قيادة أمريكا للعالم وهو الهدف السياسي لهذه الوثيقة، ولكن في العقدين الأخرين هزمت أمريكا في العراق وأفغانستان كما في أوكرانيا وحتى غزة، اهتزت صورتها في العالم، والشرخ الكبير الذي حدث ويحدث لن يكون لصالح الدور القيادي لأمريكا.
هل يعقل أن يوقع ترمب أكثر من 140 قراراً في أيامه المئة الأولى رئيساً، قرارات تتعلق بوعود انتخابية لفرض تغيير سريع وواضح دون العودة للكونغرس، هناك قرارات تراجع عن قرارات أمر بها ترمب، وهناك قرارات أعيد فيها النظر من قبل القضاء، مئة يوم مرحلة تبدأ فيها المراجعات، فالثقة بدأت تتراجع لأن الصدمات كانت أكثر من اللازم، ومن الصعب استيعابها وخاصة لوظيفة الدولة العامة وما تقوم به ادارتها، فهناك ادارة يقودها ترمب رئيس اشكالي يخلق انقسامات إلى حد كبير، والايديولوجي المتطرف دي فانس، ورجل الذكاء الاصطناعي ايلون ماسك، ومن والاه، الآن نشهد تراجع وتغيير، ترمب انتظر انقضاء المئة يوم قبل أن يطيح بمايك وولتز مستشار الأمن القومي كبش فداء لوزير الدفاع بيت هيغست بعد فضيحة التسريبات الأمنية على خلفية ضربات الحوثيين، فأصبح مارك روبيو وزير الخارجية يشغل المنصبين كخلفه كسينجر، مما يدفع ترمب إلى الوسطية، أمريكا تحتاج إلى توازن وإذا لم يغير ترمب سياساته ستكون الخسارة أكبر، قد لا يضمن استمرار الأكثرية الكاسحة كما هي الحال في مجلسي النواب والشيوخ في الانتخابات النصفية.
هناك تخبط استراتيجي في العالم لإعادة تركيب النظام العالمي الجديد، ترمب يحاول الامساك بالناصية ولا أظن المهمة سهلة، فهناك ضغط كبير ومحاولة لفرض معطيات كالبحث عن موارد مالية تستدعي شن الحروب، وترمب رجل سلام وضد الحروب!!، ما زال ترمب تحت صدمة أوكرانيا، "سينهي كل أزمة دولية خلقتها ادرة بايدن، وهو المصاب "بعقدة بايدن"، سينهي حرب غزة وأوكرانيا خلال أيام أو ساعات، وعود انتخابية"، ترمب بحركة من اصبعه يفعل كل شيء، ولكن هناك مشاكل يجب الاقرار بها، ألا يعي ترمب أن التوتر الروسي الأوكراني ليس وليد اللحظة بل جذوره ما قبل الاتحاد السوفييتي، مشكلة متراكمة ومركبة إن كان مع القوى الأوربية، أو بالعلاقة الروسية الأوكرانية، استمرت الحرب دون دعم أمريكي، ولكن نريد حل!!، تحقق صفقة المعادن التي أبرمت مع أوكرانيا جائزة ترضية وحفظ ماء الوجه لترمب بنهاية المية يوم لولايته.
وتبقى غزة ونبقى بسياسات المعقول واللا معقول، لا مكان للتفاؤل، كما لو أن إسرائيل لا تقتل ولا تقاتل على كل الجبهات لتحويل الشرق الأوسط إلى مقبرة، وتفتيته إلى كنتونات دينية وعرقية ومذهبية وعشائرية، صرخات 2,5 مليون فلسطيني تقتلهم الطائرات الصهيونية لا بل الأمريكية على مرأى ومسمع من الجميع، وها نحن نستغيث بالقاتل من القاتل، من غير ترمب يخرجنا من الجحيم، إذا كان الأمر كذلك، فالنهايات ليست سعيدة، ترمب سينهي الحرب بضربة أكبر للفلسطينيين والعرب، لأنها أمريكا التي لولاها لما كانت إسرائيل، ويستوجب أن تحكم المنطقة، وما يحدث اليوم في الجنوب السوري وعبر الخاصرة الدرزية ثمة مظاهر خطيرة، رائحة الدم تزكي الأنوف، إلى متى سيطول المخاض السوري والمخاض اللبناني والمخاض الفلسطيني؟!.