عصراً ذهبياً للولايات المتحدة الأمريكية أم تخبطاً استراتيجياً، وهي تستشعر مدى التداعيات الكارثية على مصالحها الاستراتيجية إذا ما مضت إسرائيل بحروبها في الشرق الأوسط؟، ضبط الانفلات الإسرائيلي أصبح ضرورة أمريكية، "فنحن مقبلون على كارثة فيما يتعلق برغبات إسرائيل" إسرائيل لا تهدد بنشوب حرب شاملة فقط بل إنها تؤثر في توازن القوى وتستهدف المصالح والقوات الأمريكية والغربية واشنطن تدرك مدى المأزق السياسي والعسكري الإسرائيلي الذي يزداد حدة يوماً بعد يوم، فحربها في غزة فاشلة من دون ظهور مؤشرات على نهايتها، وإسرائيل خاسرة بكل المقاييس، تبدد طموح نتنياهو بتحقيق النصر المطلق، رغم هول الجرائم والإبادة والحصار، فشله من تنفيذ التطهير العرقي بغزة "الفردوس الأمريكي" أفقد ترمب صبره، وخلق أزمة ثقة بين إدارة ترمب وحكومة نتنياهو، وأصبح نتنياهو عبئاً استراتيجياً على ترمب، رجل السلام!، وهناك ضغوط كبيرة بعد سياسة التعريفات التي أدت إلى خسائر وتضخم كبير، أودت بشعبية ترمب في الداخل الأمريكي، ومحاولات لفرض معطيات كالبحث عن صفقات واستثمارات، لا سيما أن أمريكا تغطي كل حروب نتنياهو بالمنطقة بغزة ولبنان وسوريا واليمن.
إسرائيل تعيش ظروف قاسية، والعلاقات مع واشنطن بدأت تفلت من السيطرة، واشنطن تمضي في خطواتها دون تل أبيب، "الولايات المتحدة لا تحتاج إذناً من أحد"، والكلام للسفير الأمريكي بإسرائيل، نتنياهو يقول أن سياسة ترمب على الأرض لا تطابق ما يصرح عنه، فبدت إسرائيل تشعر بأنها وحدها، ومتى كانت وحدها؟! فهذا مشكوك فيه، خمسة عشرة عاماً في السلطة ظهر نتنياهو أكثر قوة من أي رئيس أمريكي، أجاد التعامل مع كافة الإدارات الأمريكية واعتاد أن يتعامل مع رؤساء العالم بمنطق الاستعلاء، حين يتوج نتنياهو ملكاً في أمريكا فأصل الحكاية أمريكا ثم إسرائيل، غطرسة نتنياهو وانفلات إسرائيل خلقته الإدارات الأمريكية بما فيها ترمب نفسه، الكونغرس يصفق لمذابح نتنياهو، ويمول ويسلح مجرمي الحرب في غزة، كلنا يدرك العلاقة بين إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية شراكة تاريخية ترجمت على شكل مساعدات سياسية وعسكرية ومالية ساهمت في تطوير الجيش الإسرائيلي حتى أصبح أكثر الجيوش تقدماً في العالم وترتب على الولايات المتحدة الأمريكية واجباً أخلاقياً في الدفاع عنها، فلولا التغطية اللوجستية الأمريكية والغربية لإسرائيل، لشهدنا انهيارها.
العلاقة بين واشنطن وتل أبيب تشوبها بين الفينة والأخرى فتور وتوتر، الإدارة الأمريكية ترى أن نتنياهو زعيم يفتقر إلى خطة تجاه ملفات المنطقة إيران واليمن وغزة وسوريا، وتظهر حدة الخلاف بعد الإطاحة بمايك وولتز مستشار الأمن القومي بعد فضيحة التسريبات الأمنية على خلفية ضربات الحوثيين، ولقاءات وولتز مع نتنياهو لإفشال المفاوضات والتخطيط لضربات لإيران لدفع ترمب مواجهتها عسكرياً، وإعلان ترامب اتفاقية مع الحوثيين أخذت فيها المصالح الأمريكية والانجرار للمستنقع اليمني دون مراعاة مصالح إسرائيل ودون علمها، وغياب إسرائيل عن جولة ترمب في الشرق الأوسط إشارة على اتساع الفجوة في العلاقات، تصعيد ورسائل حاسمة ترسلها الإدارة الأمريكية لنتنياهو، تعكس الضغوط الكبيرة التي يمارسها ترمب على نتنياهو للتوصل إلى صفقة لوقف إطلاق النار وإطلاق سراح الرهائن بالتزامن مع زيارته المرتقبة للمنطقة، ويعتبره ترمب "أمراً بغاية الأهمية، وإذا لم تنجز إسرائيل شيء في هذا الملف ستبقى وحدها"، تترسخ القناعة الإسرائيلية بأن الحليف الأقرب لم يعد كما كان، بعد تصريحاته بشأن غزة بأن "شيئاً ما سيحدث قريباً"، والإعلان عن خطة لإدخال مساعدات إنسانية بدون تدخل إسرائيل، كمنقذ للوضع الإنساني، يستحق عليه جائزة نوبل للسلام!! غزة المنكوبة إنسانياً، لا يوجد مؤسسات ومنظمات فاعلة على الأرض إلا ما ندر والأونروا التي تسعى إسرائيل إلى تفكيكها ونزع الصدقية عنها، من غير ترمب يخرجها من الجحيم!، فهل حقاً ترمب يضغط على إسرائيل لإيقاف الحرب في غزة؟!، إذا كان الأمر كذلك، فالنهايات ليست سعيدة، ترمب سينهي الحرب بضربة أكبر للفلسطينيين والعرب، لأنها أمريكا التي لولاها لما كانت إسرائيل، ورغم ذلك، مشاعر الاحباط لم تعد خافية في إسرائيل، فالمظلة الأمريكية لم تعد مضمونة، ترمب فقد الثقة بنتنياهو وقطع التواصل معه.
خلافات تكتيكية ليس إلا!، ما يجري في غزة من مجاعة وقتل وتطهير عرقي يعرقل ما يسعى له ترمب، ترتيب أولوياته وإعادة صياغة علاقاته مع دول المنطقة وخاصة دول الخليج، والسعي لضبط الانفلات والضغط على نتنياهو محاولة لاستشعار الشركاء العرب أن أمريكا تمارس ضغطاً في محاولة لجر الجميع إلى المربع الذي تريده أمريكا شراكات ومواقف سياسية واقتصادية واستثمارات وأموال في محاولة لتخفيف الحرج عن هذه الزعامات أمام شعوبها "أن يأتي إليها ترمب والمقتلة مازالت تجري في غزة"، ولكن أمريكا إن كان ترمب أو غيره، لن تذهب إلى اتفاق يكسر هيبة إسرائيل ونتنياهو، والرهان على ترمب وسيرة هذا الرجل كحالة خاصة وموقفه يجب أن يظل محل شك من طرفنا كعرب وكفلسطينيين، نظرة رجل الصفقات والتجارة الذي ربما سرعان ما يتفلت من التزاماته ينقلب على مواقفه ويعود إلى سيرته الأولى.
اختيار ترمب 15/5 وهو يوم ذكرى النكبة موعداً لزيارته للمنطقة لها دلالة سياسية خطيرة تؤكد الدعم المطلق الأمريكي لإسرائيل وإعادة إحياء الاتفاقات الإبراهيمية وتشكيل المنطقة بما يتناسب والضرورة الإسرائيلية، ترمب قدم لإسرائيل مالم تكن تحلم به في ولايته الأولى، وشكل نقطة تحول خطيرة في التعامل الأمريكي مع القضية الفلسطينية، بنقل السفارة والاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل في تحد للإجماع الدولي وطرح صفقة القرن بملفاتها الاقتصادية متجاهلاً حق الشعب الفلسطيني بتقرير مصيره وإقامة دولته، أما في ولايته الثانية تأييد مطلق لنتنياهو بعدوانه على غزة مهما كانت التكاليف البشرية، ضم وتهويد غزة وتهجير الشعب الفلسطيني تتلاءم والخطة الأمريكية وطرح ترامب لمشروع الريفيرا الذي يسعى إلى التطهير العرقي للقطاع.
أكبر تهديد استراتيجي وأمني تواجهه إسرائيل في الوقت الحالي يتمثل بإمكانية تدهور علاقاتها مع الدول الغربية والإدارة الأمريكية، نتنياهو الذي يحاول أن يدفن غزة تحت الأنقاض، هو أيضاً تحت الأنقاض. الدائرة تضيق به وعليه أن يقلب الطاولة على الجميع ويبعثر الأوراق، ليضع إسرائيل أمام مخاطر وجودية وخطوة في طريق الانحدار، الأفق بات أمامه ضيق، لابد أن تستثمر ذلك الدول العربية وخاصة السعودية، لا منقذ غيرها، بربط المصالح بإنهاء الحرب دعونا ننتظر الخطاب العربي حول مستقبل غزة والمنطقة برمتها، نحن أمام محاولة أمريكية لضبط الايقاع والسؤال هل هذه المحاولة الأمريكية جادة؟؟ تتحول إلى تطبيق وتخرج من دائرة المواقف الكلامية الانشائية، هذا ستؤكده الأيام القادمة، وإن كان "مجرب المجرب، عقله مخرب"، فالولايات المتحدة الأمريكية لن تتمرد على إسرائيل لأنها إسرائيل في الدولة العميقة والفكر المتصهين هي المرجعية، ونهاية نتنياهو لا يعني نهاية إسرائيل.