صحوة أوروبا المتأخرة: فرصة فلسطينية لإنهاء الإبادة والاحتلال

 

"أن تأتي متأخراً خيرٌ من ألا تأتي أبداً"، هذا ما يمكن قوله اليوم مع بدء تحرك بعض الدول الأوروبية – وإن كان خجولاً ومتأخراً – لرفض الإبادة الجماعية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني في قطاع غزة منذ أكتوبر 2023، والتي راح ضحيتها أكثر من 190.000 ألف فلسطيني بين شهيد وجريح، غالبيتهم من النساء والأطفال.

لقد كشفت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، والتي استمرت لأكثر من 20 شهراً، حجم الانحياز الغربي الأعمى، وفضحت ازدواجية المعايير التي حكمت مواقف الكثير من الدول الأوروبية في بداية العدوان. إذ بدا وكأن أوروبا، بقيمها ومبادئها الديمقراطية، قد أغلقت عينيها طويلاً أمام جرائم حرب موثقة بالأرقام والصور والشهادات، لم يكن صوت الضحايا كافياً ولا التقارير الحقوقية ولا حتى استغاثات الأمم المتحدة ومنظماتها. كان لا بدّ من سقوط هذا الكم الهائل من الضحايا، وتدمير كل مقومات الحياة في القطاع، حتى يبدأ ضمير بعض العواصم الأوروبية في الاستيقاظ.

وفي الأسابيع الأخيرة، شهدنا مواقف أوروبية مهمة تمثلت في دعوات واضحة من دول مثل، فرنسا، وبريطانيا بوقف الحرب، وتحميل إسرائيل المسؤولية عن الكارثة الإنسانية. بل إن بعض هذه الدول عبّرت عن نيتها الاعتراف رسمياً بالدولة الفلسطينية. هذه التحركات – رغم محدوديتها – تشكّل مؤشراً مهماً يمكن البناء عليه. فهي تعكس بداية تحول في المزاج السياسي الأوروبي، مدفوعاً بضغط الشارع، وتزايد الوعي الدولي بخطورة استمرار الاحتلال، وأهمية إنهاء معاناة الفلسطينيين بشكل جذري.

لكن السؤال الأهم هنا: ماذا بعد؟ هل يكفي إصدار بيانات الإدانة والدعوة لوقف الحرب؟ وهل يُعدّ الاعتراف الأوروبي بدولة فلسطينية – إن تم – مكسباً حقيقياً في ظل استمرار الاحتلال، وتفكك البيت الفلسطيني، وصمت دولي مريب؟

المطلوب اليوم من أوروبا أكثر من مجرد التعاطف المتأخر، أوروبا تتحمل مسؤولية تاريخية وأخلاقية وسياسية في مأساة فلسطين، كونها أحد الأطراف التي ساهمت في خلق المشكلة منذ بدايات القرن العشرين، سواء عبر وعد بلفور البريطاني، أو من خلال دعم الكيان الصهيوني بعد النكبة، أو عبر تغاضيها الطويل عن الانتهاكات الإسرائيلية. لذلك فإن الاعتراف بدولة فلسطينية ليس منّة، بل واجب تأخر كثيراً.

يجب أن تمارس أوروبا ضغطاً حقيقياً على الاحتلال لوقف الحرب فوراً، وإلزامه بقرارات الشرعية الدولية، خاصة تلك المتعلقة بحق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم، وإنهاء الاحتلال، وإقامة دولتهم المستقلة على حدود الرابع من حزيران عام 1967 وعاصمتها القدس. هذا الاعتراف إن اقترن بإجراءات عملية مثل فرض عقوبات على الاحتلال، أو دعم مسار محاسبة إسرائيل في محكمة العدل الدولية، سيكون له أثر سياسي وقانوني كبير في ترسيخ الحقوق الفلسطينية.

لكن في الوقت ذاته، تقع على القوى السياسية الفلسطينية مسؤولية تاريخية أيضاً اذ لا يمكن الاستثمار في هذه الصحوة الأوروبية دون توحيد الصف الوطني، وإنهاء الانقسام الذي أضعف القضية وأفقدها الكثير من الدعم والمصداقية، فكيف يمكن أن نطلب من العالم الاعتراف بنا كدولة مستقلة ونحن عاجزون عن الاتفاق على حكومة واحدة وارادة سياسية واحدة، أو على برنامج وطني موحّد؟ يجب أن تكون اللحظة الراهنة دافعاً لكل القوى الفلسطينية للعودة إلى طاولة الحوار، ووضع خلافاتها جانباً، من أجل بناء جبهة سياسية موحدة تستثمر هذا الزخم الدولي.

بل أكثر من ذلك، يجب على جميع الفلسطينيين العمل مع الدول الأوروبية التي بدأت تتعاطف مع قضيتنا، لتشكيل جبهة عالمية مناهضة للإبادة الجماعية وداعمة للحق الفلسطيني هذه الجبهة يمكن أن تضم دولاً من أميركا اللاتينية، وأفريقيا، وآسيا، إلى جانب شعوب أوروبا الحرة التي خرجت بمئات الآلاف إلى الشوارع نصرة لغزة. مثل هذه الجبهة ستكون قادرة على عزل إسرائيل دولياً، كما حصل مع نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا.

في المحصلة، فإن الاْلم والدم الفلسطيني ليس رخيصاً. ومن العار أن نحتاج إلى ما يزيد 60.000 ألف شهيد حتى تبدأ بعض الضمائر في التحرك، لكن رغم ذلك فإن أي تحول دولي – ولو كان متأخراً – يجب أن يُستثمر بالشكل الصحيح. والمطلوب من الفلسطينيين قيادةً ومجتمعاً، أن يحوّلوا هذا التحرك إلى فرصة تاريخية، لبناء استراتيجية جديدة تستند إلى الوحدة الوطنية، والتحرك القانوني والدبلوماسي الدولي، حتى يتم إنهاء الاحتلال، ومحاسبة مجرمي الحرب، ونيل الاعتراف الكامل بدولة فلسطين.

 

 

 

Loading...