البحر كان هادئًا... والنسمات المنعشة تهز مياهه، محدثةً بعض التجاعيد في الوجه الأزرق الجميل... وكوني كنت عائدًا لتوّي من قلم الاقتراع لانتخاب مجلس لبلدية بيروت، يبدو أن الصورة التي خرجت بها من منطقة الانتخاب رافقتني إلى الكورنيش البحري لتحجب عني اللون الأزرق بضباب كالدخان غلّف المنظر كله بستار كالحجاب محددًا لي مدى الرؤية، مضيعًا الأبعاد والاتجاهات وحقائق الجغرافيا... تمامًا مثله كان الجو الذي لمسته في منطقة الانتخاب، حيث إقفال الأفق وطمس المعالم حتى لا تعرف الطريق إلى مستقبل!!
على "الكورنيش" المحروس من الأشجار، والتي بعضها عارية غصونها في انتظار الورق والزهر، ومن يدري إذا كان هناك من ثمر، تتنزه مجموعات من الناس بينهم كهول وعجائز، بعضهم ينزّه كلابه، فيُخيّل إليك أنك في منتجع للمتقاعدين أصلاً، يجيئونه ليختفوا في سكينته ومعهم ما "جمعوه" بالسمسرة والصفقات وتقديم ما تيسر من أنواع الخدمات للقادرين على الدفع بسخاء وبدون حساب... وما يلفت النظر نظافة أصابعهم غير المُغمَّسة بحبر الانتخابات! تنظر مجددًا إلى الأفق وتسأل عن الإنجاز العظيم الذي سيتحقق في نهاية النهار: اللاشيء.. وهذا يعني تفاقم الانقسام إلى حد الانفصال والقطيعة، بحيث لا يبقى لك جسرًا لتعبر...
تعود إليك الصورة لمنطقة أو لمحيط المركز الانتخابي وتعود الأصوات التي سمعتها: المسلمون يريدون ويحاولون تجريد المسيحيين من حقوقهم، أو أن المسيحيين مستعدون للدفاع عن ضماناتهم بكل ما ملكت إيمانهم، وبكل ما هو متاح أمامهم من تحالفات ولو مع... بارتفاع صيحات "يا غيرة الدين" تخفت كل تلك الأصوات القائلة بالتغيير، ولكن هذه المرة بدافع القرف واليأس أكثر مما بدافع الخوف... تسمع الأصوات الخافتة تسأل: أي أكاذيب كانوا يبيعوننا!! أين العلم والوعي والتنوير أمام هذا الظلام الطائفي؟!
أحلف بالله العظيم أنه لو طُبقت القوانين والأعراف اللبنانية على أعظم دولة في العالم، لتفتت في أقل من شهر (أو أربعة أسابيع)، مدة إجراء الانتخابات البلدية. تصوروا مثلاً الولايات المتحدة الأمريكية أو الاتحاد الروسي وقد غرقوا في فرز مواطنيهم على أساس الأعراف، والقوميات، والأديان، والطوائف، والمذاهب، وحاولوا الموازنة بينهم وفق هذه المعطيات، وبتجاهل لكونهم جميعًا مواطنين أولاً وأخيرًا... سيندثر جميع هؤلاء داخل أتون حرب لا تبقي منهم أحدًا ولا تبقي في بلادهم نسمة حياة!!
البحر هادئ، وقبل أن تجيء العتمة متسللة لتسدل ستارها على كل شيء، وقبل أن تُقفَل أبواب مراكز الاقتراع كعقول العديد من الناخبين، قررت العودة إلى المنزل وبقيت على يقيني، وبالرغم من كل شيء... أن لا فجر إلا في بيروت حيث يبدأ الجنوب الحبيب...