من سيفتح صندوق باندورا؟

 

 

 

مرحلة جديدة في العلاقات الدولية القائمة, تمثل الأزمة الأوكرانية "لافتتها", والتوازنات الدولية وأدوار الدول الرئيسية العالمية جوهرها الحقيقي، يرى الكسندر دوغين "أن من الفترات الجيوسياسية الأكثر صعوبة وحسماً في التاريخ الحديث لروسيا، هي الحرب الروسية الأوكرانية، إذ لم يكن بالإمكان تجنبها أو منعها، والحرب الجيوسياسية للغرب ضد روسيا مستمرة تتغير أطوارها فقط، باردة أو ساخنة، والآن المرحلة ساخنة جداً ولا يمكن أن تكون أكثر سخونة"، العالم تغير بعدها ولن يعود إلى ما كان عليه من قبل، يعكس توازن قوى عالمية ستتحدد معالمه بعد نهاية هذه الحرب، ونهايتها قد لا تبدو قريبة، فقد أثر الصراع منذ اليوم الأول على عدة ملفات دولية متشابكة، لا تعتبر فيها روسيا الخاسر الوحيد على كل حال، موقع أوكرانيا الجيوسياسي الهام وما تشكله من خاصرة رخوة لروسيا الاتحادية، زادت أهميتها في مرحلة التجاذبات الدولية الحالية، وأي حلول أو تسويات قد تكون آنية لتجنب انفجار الصراع بين القوى العظمى، بعد أن أظهرت الحرب في أوكرانيا عبثية اللعب على حافة حرب عالمية ثالثة.

تنتهي الحروب عادة عندما يتعرض أحد طرفي الصراع أوكلاهما لاستنزاف عسكري واقتصادي، لكننا في الحرب الروسية الاوكرانية لا نزال بعيدين عن ذلك، لا خرق عسكري يحسم المعركة أو يحمل نصراً يقلب موازيين الحرب لصالح أحد طرفي الصراع، "ربما يتعين علينا أن نتهيأ لفترة أطول" هذا ما قاله المستشار الألماني ميرتس، ويبدو أن الأمل بإنهاء الحرب يزداد تضاؤلاً مع توالي الهجمات المتبادلة بالطائرات المسيرة والصواريخ بين الطرفين، تزيد وتيرتها من الجانب الروسي، مع ادراكه بأن الغرب في موقف ضعيف، لا يريد أي منهم أن يدخل المفاوضات من نقطة ضعف، وكلا الطرفين يريد أن يعزز موقفه وأوراقه لإنهاء الصراع، ولايزال الجانبان ملتزمان بالخيار العسكري، ويتمسك الرئيسان الروسي والأوكراني بأهدافهما المعلنة التي حالت دون اجراء محادثات مباشرة لإنهاء الصراع، وسيكرس "الدب الروسي" كل إمكانياته لحسمها، "روسيا قد تخسر معركة، ولكنها لا يمكن أن تخسر حرباً"، وبالتالي هو توسيع نطاق الضربات الروسية سواء الصاروخية والمدفعية.

تفاعلات متسارعة تشهدها الحرب الروسية الأوكرانية تجمع ما بين تجديد العقوبات على روسيا، وما بين إمكانات أوكرانيا ومقدراتها، ومصداقية الوعود الفضفاضة وبخاصة "الأوروبية" بإمداد السلاح والعتاد الحربي، في الوقت الذي ينعكس فيه طابع التعامل السياسي المجرد مع الأزمة سلباً على العلاقات الأوروبية- الروسية، واقتصادياً في ظل أزمة مالية خانقة يعيشها الاتحاد الأوروبي تلقي بظلالها على الأمن الأوروبي، يبدو أن الأمن الأوروبي دخل مرحلة حرجة من المواجهة الجيوسياسية والاقتصادية في هذه الحرب، ومن المحتمل أن تغير هذه الحرب الكثير في النظام الأوروبي الذي لم يعرف الاستقرار الأمني والسياسي، بل وحتى الاقتصادي والطاقي على مدى قرون وفترات متباينة، دون ذلك فإن المساعي لوقف الحرب عن طريق المفاوضات تكاد تصبح من الماضي ليبقى الشيء الوحيد المتاح هو الانهاك العسكري والاقتصادي لأحد الطرفين، وفي حال فشل الأطراف المتنازعة في الوصول الى تسوية سلمية وتقديم تنازلات، فان أوروبا ستكون الخاسر الأكبر من هذه الحرب ستدفع من وحدتها واستقرارها ثمن لها، وستكون في أشد الحاجة إلى التعامل مع عبئها الأمني، ومن المفترض أن الحرب في أوكرانيا أعادت صياغة المنطق الأساسي للأمن الأوروبي، فسقوط أوكرانيا يعني سقوط دول أوروبية أخرى، يؤكده تصريحات سابقة لميدفيدف "الدبابات الروسية يجب أن تصل إلى برلين"، لذلك نجد الدعم اللامتناهي لأوكرانيا والسماح لها بضرب مواقع عسكرية في العمق الروسي وهو لم يكن متاحاً لها من قبل، "لم تعد هناك حدود لاستخدام الأسلحة الغربية البريطانية والفرنسية والأمريكية والألمانية الممنوحة لأوكرانيا" والكلام لميرتس، فالقيود التي وضعتها أمريكا والغرب على استخدام أوكرانيا لأسلحتها سابقاً لاستهداف العمق الروسي لتفادي مواجهة مباشرة مع روسيا، ولكن استهداف العمق الروسي سيكون له أثار جيوسياسية خطيرة، فهل سيكرس "الدب الروسي" كل إمكانياته لحسمها؟.   

رغم قساوة الاقتتال الدائرتكللت بتقدم القوات الروسية والسيطرة على خمس الأراضي الأوكرانية، كان تقدماً بطيءً ولكنه ثابتاً باعتراف أمريكا والغرب مع يقينها أن "الانتصار الروسي مؤلم ولكنه محتوم". بين حشد وحشد مضاد تحولت أوكرانيا إلى مسرح لعروض الأسلحة وتجربتها نحو مستويات غير مسبوقة في زخمها وخطورتها ما بين أسلحة تقليدية إلى أسلحة متطورة، بدءاً بالمسيرات والدبابات والصواريخ متوسطة المدى ومضادات الدروع وغيرها، إلى الطائرات بدون طيار الدرونز وراجمات صواريخ هيمارس أمريكية الصنع ومدافع هاوتزر، إلى جانب الأسلحة الاستراتيجية والنووية لتضع القارة الأوروبية والعالم أمام أخطر صراع جيوسياسي.

وسط محاولات ترمب إلى انهاء الحرب في أوكرانيا، لتنفيذ وعوده الانتخابية، يومياً وكل ساعة تصريحات جدلية ومثيرة له "بوتين يلعب بالنار، ويصفه بالجنون"، فتور بين ترمب وبوتين بعد فشله في التوصل لوضع حد للحرب وتحقيق السلام، يبدو أن الضغوطات تزداد على بوتين من أجل العودة إلى مسار وقف الحرب، مع تهديد ترمب بفرض عقوبات جديدة على روسيا مترافقة مع عقوبات الاتحاد الأوروبي وسياسة الستار الحديدي التي فرضها الغرب ضد الاتحاد السوفييتي، واشنطن بوست نقلت أن وزارتي الخارجية والخزانة الأمريكية تعدان مجموعة عقوبات ضد روسيا وربما رسوم جمركية قد تصل إلى 50% على صادرات الطاقة الروسية، من جهة أخرى تدرك روسيا أن هذه المعركة، رغم استيعاب الاقتصاد الروسي لصدمة العقوبات الغربية، واستفرادها بأسلحة نوعية لن تُحسم بسهولة، وهذا ليس في صالحها لأن الغرب والولايات المتحدة الامريكية يغدقون بالمليارات لتمويل هذه الحرب، فدولة كأوكرانيا ما كان لها أن تصمد أمام روسيا لولا الدعم والتجييش من الولايات المتحدة الأمريكية والغرب متمثلاً بحلف الناتو، ويبدو أنها نجحت في جعل المعركة حرب استنزاف لروسيا اقتصادياً وعسكرياً استخدمت فيها كافة أنواع الأسلحة الا النووي منها.

الحرب ستنتهي بطريقة ما، ومن الصعب التكهن بنهايتها، وصلنا إلى احتقان شديد عند كل الأطراف قد يؤدي إلى حرب بلا ضوابط قد تتخذ منعطفاً خطيراً خاصة بعد تجاوز الخطوط الحمراء بعد محاولة اغتيال بوتين في كورسك، كارثة ربما تغير مجرى الأحداث بشكل كبير، روسيا تؤكد تورط كل من بريطانيا وفرنسا وبولندا في التخطيط والدعم، قد يفتح أبواباً لمواجهة مباشرة، وقد يفتح صندوق باندورا الذي خرجت منه كل شرور البشرية حسب الرواية الاغريقية.  

 

 

 

 

كلمات مفتاحية::
Loading...