ليس وقت المجاملات... يجب إنقاذ غزة

 

 

 

ليس الوقت وقت مجاملات أو مناورات سياسية. الدم المسفوك في غزة ليس لوناً على شاشات الأخبار، بل حياة تُسحق كل لحظة. شعبنا في قطاع غزة يذوق الأمرّين منذ 21 شهراً، وكل يوم يمر يزيد من مأساته المركبة؛ إذ تُرتكب بحقه جرائم إبادة جماعية، ويعيش حصاراً خانقاً، وينام تحت قصف لا يميز بين طفل أو شيخ أو امرأة. ولهذا، فإن أي صفقة قادمة، سواء على شكل هدنة مؤقتة أو اتفاق تبادل أو تفاهمات إنسانية، يجب ألا تكون شكلية، بل وسيلة حقيقية لتحقيق ثلاثة أهداف عاجلة وملحّة، هذه المطالب ليست سياسية بقدر ما هي إنسانية وواقعية. إنها أبسط أشكال الحق في البقاء.

أولاً: وقف فعلي للإبادة الجماعية والقتل اليومي، إن الحرب المستمرة منذ 7 أكتوبر تجاوزت كل الحدود. بحسب إحصائيات وزارة الصحة الفلسطينية في غزة بلغ عدد الشهداء أكثر من 54,607شهيد، معظمهم من الأطفال والنساء، فضلاً عن عشرات الآلاف من الجرحى والمفقودين، هذه الأرقام ليست مجرد إحصاءات، بل تمثل أرواحاً سُلبت بوحشية. إن استمرار القتل اليومي دون رادع يعني أن كل اتفاق لا يوقف هذه الإبادة سيكون تجميلًا للكارثة لا حلاً لها. المطلوب هو وقف حقيقي وشامل لإطلاق النار، لا هدنة مؤقتة يُستأنف بعدها العدوان، شعبنا لا يحتمل المزيد من المراوغات فهو لم يعد يطالب بالحد الأدنى من الحقوق، بل بالحد الأدنى من الحياة.

ثانياً: ضمان دخول المساعدات بشكل عادل وكريم، مراكز توزيع المساعدات التي ينشئها الاحتلال، ليست إلا فخاخاً للإذلال والاعتقال والتصفية. ما حدث عند دوار العلم في محافظة رفح يوم المجزرة شاهد دامغ على ذلك. خرج المدنيون الجائعون على أمل الحصول على كيس طحين، ليُقابلوا بوابل من الرصاص والقنابل، في مشهد يعيد إلى الذاكرة المجازر الجماعية التاريخية، لكنه يحدث في وضح النهار وبشهادات حية.

المساعدات التي لا تصل إلا من خلال منظومة أمنية إسرائيلية، أو عبر آليات تمييزية وفوضوية، لا يمكن اعتبارها إنسانية. لا يكفي إدخال الشاحنات إن لم تكن هناك آليات تضمن التوزيع العادل، وتحفظ كرامة المتلقين، وتمنع تحويل الجوع إلى أداة ابتزاز سياسي وأمني.

ثالثاً: انسحاب الاحتلال من قطاع غزة لتمكين النازحين من العودة إلى ديارهم أو ما تبقى منها، بلغ عدد النازحين أكثر من 1.7 مليون نسمة، أي نحو 75% من سكان قطاع غزة. هؤلاء لا يعيشون فقط مأساة التشريد، بل مأساة انعدام المأوى، والدواء، والغذاء، والماء النظيف، والحماية. العودة إلى المنازل ليست ترفاً، بل ضرورة إنسانية عاجلة. ومن دون انسحاب فعلي من المناطق التي احتلها الجيش الإسرائيلي، فإن الحديث عن أي حل إنساني سيكون عديم الجدوى. المطلوب انسحاب فعلي لا يعقبه احتلال جديد تحت مسميات أمنية أو "مناطق عازلة"، بل انسحابا يمكّن الناس من العودة بأمان، ويمنع تحويل أماكنهم إلى مناطق عسكرية أو مقابر جماعية.

لا هدنة تُفضي إلى إبادة مؤجلة، كثير من المبادرات الدولية تتحدث عن "تهدئة إنسانية" أو "صفقة مؤقتة"، لكن المشكلة تكمن في أن هذه المبادرات، إن لم تكن شاملة وحقيقية، فإنها تصبح مجرد استراحة للقاتل، وليست نجدة للضحية. إننا بحاجة إلى صفقة تفتح الأفق لإنهاء الحرب، لا إلى مجرد "هدنة" يعقبها جولات جديدة من الدم. الهدوء مهم، بل ضروري، ولكن الهدوء الذي يفضي إلى جولة قتل جديدة، لا يخدم سوى الاحتلال. وبالتالي، فإن أي صفقة لا تتضمن الوقف الفوري للحرب، وفتح ممرات إنسانية آمنة، وضمان عودة النازحين، ستكون خيبة أمل كبيرة، وستكرّس المعاناة بدل إنهائها، شعبنا لم يعد يحتمل المزيد من الاتفاقات الشكلية، لقد خاض تجارب عديدة مع ما يُسمى "التهدئات المؤقتة"، ويدرك أن معظمها كانت حبائل لالتقاط الأنفاس من قبل الاحتلال، أو وسائل للضغط السياسي من أطراف إقليمية ودولية. ما يحتاجه شعبنا الآن هو صفقة تستند إلى الحقوق، لا إلى التوازنات، إلى الدم والدموع لا إلى مصالح الدول الكبرى.

ليس هدف شعبنا التوقيع على ورقة جديدة تُسمى "اتفاقاً"، بل أن يرى تطبيقاً فعلياً على الأرض: أن يتوقف القتل، أن يتلقى الأطفال دواءهم وغذاءهم، أن يعود الناس إلى بيوتهم، أن يشعر الناجون من الأبادة بأن هناك غدٌ يمكن أن يُعاش.

أمام هذه المعادلة الإنسانية والسياسية المعقدة، يجب على كل القوى الفلسطينية أن توحد جهودها للدفع باتجاه صفقة حقيقية، كما يجب على الدول العربية، خصوصاً مصر وقطر والأردن، أن تمارس ضغطاً سياسياً وحقوقياً عاجلاً لإنقاذ أرواح المدنيين، أما المجتمع الدولي، فعليه أن يدرك أن التخاذل أمام هذا النزيف البشري ينسف مبادئ القانون الدولي، ويجعل من الشرعية الدولية أداة انتقائية. إن تقارير منظمات كـ"هيومن رايتس ووتش" و"أطباء بلا حدود" و"العفو الدولية" وثقت بالأدلة جرائم الاحتلال في غزة، ومع ذلك لم تتخذ الأمم المتحدة موقفاً حازماً لوقف المجازر.

نعم، نحن بحاجة إلى فسحة من الراحة، ولكننا بحاجة أكبر إلى نهاية لهذه الحرب الكارثية، بما يُحقق لشعبنا الحياة، لا مجرد البقاء، والكرامة لا مجرد النجاة.

 

 

 

Loading...