في الوقت الذي يتشبث فيه سكان غزة بأي خيط من الحياة وسط حرب ضروس لا تبقي ولا تذر، تحوّلت المساعدات الإنسانية – المفترض أن تكون طوق نجاة – إلى فخاخ قاتلة، أعدّت بإحكام وسُوّقت على أنها حلول إنسانية. فمنذ أن بدأت إسرائيل بتنسيق عمليات إنزال وتوزيع المساعدات الأمريكية عبر نقاط مختارة داخل القطاع، سقط القناع عن الوجه الحقيقي لهذه العمليات، وظهر الواقع الأليم: مساعدات مغمسة بالدم، لا تقل فتكًا عن الصواريخ والقذائف. ففي آخر تحديث، تجاوز عدد الضحايا عند نقاط توزيع المساعدات المئة شهيد، وأصيب المئات بجراج، بعد أن تحوّلت هذه المواقع إلى ما وصفه الناجون بـ"مصائد للقتل الجماعي"، حيث تختلط معاناة الجوع برعب القنص والانفجارات.
وبحسب تقرير لمنظمة “محامون من أجل فلسطين” في سويسرا فإن معظم عناصر مؤسسة “غزة الإنسانية” هم من الاستخبارات الأمريكية، ومهمتها هي جمع بيانات تمكن من السيطرة على غزة. وهي تعمل مع مؤسسة أمنية تدعى (Safe Reach Solutions)، توظف عددا من المتقاعدين العسكريين الأمريكيين المتخصصين بالأمن والاستخبارات البصرية، وبراتب يصل لـ 1000 دولار يوميا، لجمع البيانات الّتي تسهل إدارة أو السيطرة على غزة . وأحد أهم أهداف الشركة الأمنية هو دراسة الفعل وردة الفعل لدى المجتمع الفلسطيني المرهق عن قرب، وبناء قاعدة معلومات بصرية لعدد كبير من سكان غزة. فكثير من موظفين هذه المؤسسة أصحاب خبرة في تحليل المعلومات الاستخباراتية البصرية.
الشكوك حول مؤسسة "غزة الإنسانية" عززتها معلومات كانت قد نشرتها صحيفة هآرتس الإسرائيلية، في تحقيقها الصادر بتاريخ 25 مايو/أيار الماضي، والذي كشف عن تورط شركة خاصة غير معروفة في تنفيذ عمليات التوزيع الميدانية. التحقيق أشار إلى أن هذه الشركة ترتبط بعقود أمنية مع وزارة الدفاع الإسرائيلية، وسبق أن نفذت مهام ميدانية في الضفة الغربية ومناطق حدودية، ما يلقي بظلال ثقيلة من الريبة حول نوايا هذه "المساعدات" التي لا تشبه في شيء العمل الإنساني، بل توحي بأنها جزء من هندسة أمنية متكاملة، هدفها الأول ليس إغاثة السكان، بل ضبطهم، مراقبتهم، وأخذ بصمات عيونهم.
إن ما يجري على الأرض يصعب تصديقه، فالآلاف من المدنيين، بينهم نساء وأطفال ومسنون، يتدفقون على مراكز توزيع المساعدات مع أول ضوء للفجر، مدفوعين بأمل الحصول على كيس دقيق أو علب "تونا" وغيرها ما قد يسد الرمق ليوم أو يومين. هذا الإقبال الكثيف يتحول بسرعة إلى مشاهد مروعة من الازدحام والتدافع، في ظل غياب أي تنظيم فعلي أو إشراف أممي يضبط الفوضى أو يحمي المدنيين من الكارثة. يركض الناس بجنون، تتعالى الصرخات، يتساقط البعض تحت الأقدام، و"ينبطح" آخرون على الأرض لئلا تصيبهم طلقات القناصة، فيما تحوم الطائرات المسيرة فوق رؤوسهم.
ما يزيد من مأساوية المشهد هو بعد مواقع نقاط التوزيع عن التجمعات السكانية. هذه النقاط – التي يفترض أن تكون مراكز إنسانية – جرى اختيارها عمدًا في أماكن بعيدة، ما يجبر المدنيين على السير لساعات طويلة، غالبًا على الأقدام، ومرورهم إجباريًا بمحاذاة قواعد ونقاط تفتيش عسكرية إسرائيلية، أو في مناطق مكشوفة يسيطر عليها جيش الإحتلال بالنار والمراقبة. ومع تكرار الحوادث الدامية في هذه المواقع، تتسع دائرة التساؤلات: هل كانت المواقع بعيدة لأسباب لوجستية فعلًا، أم أنها خُصصت لتكون ميادين مفتوحة لتنفيذ أهداف غير إنسانية؟
كل هذا يقود إلى التساؤل: ما هي الأهداف غير المعلنة التي تسعى إسرائيل لتحقيقها من خلال إدارة ملف المساعدات لغزة بهذه الطريقة؟ فهناك من يرى أنها محاولة لتحويل المساعدات إلى أداة للضغط السياسي والعسكري، بينما يعتقد آخرون أنها تستهدف خلق حالة من الاعتماد الكلي على قنوات محددة، تُمكِّن الاحتلال من فرض شروطه وتوجيه حياة المدنيين حتى في أكثر لحظاتهم ضعفًا. وربما تسعى إسرائيل إلى بث الفوضى والهلع بين السكان، وتجريد فكرة "الإغاثة" من معناها، لتغدو مجرد طقس دموي جديد في معركتها المفتوحة ضد الوجود الفلسطيني.
في المقابل، فإن الموقف الدولي، وعلى رأسه الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان، لا يزال دون المستوى المطلوب، بل يقترب من حالة التواطئ. ورغم بعض التصريحات الخجولة التي عبرت عن "القلق العميق" من طريقة توزيع المساعدات ومواقعها، فإن أحدًا لم يتخذ إجراءات فعلية لفرض رقابة دولية صارمة على آلية التوزيع أو لضمان حياد الأطراف المنفذة. هذه الآلية – المتمثلة في التنسيق الأمريكي الإسرائيلي الحصري – باتت مرفوضة إنسانيًا، لأنها لا تراعي الحد الأدنى من شروط الأمان أو الكرامة للمحتاجين. بل تحوّلت إلى جسر بين الحياة والموت، يعبره الفلسطينيون مرغمين، وكلهم يدركون أنهم قد لا يعودون.
وعلى ضوء عمليات القتل الإسرائيلية المتكررة للمدنيين الفلسطينيين عند مراكز توزيع المساعدات، أصبح الفلسطيني يواجه خيارًا مأساويًا بين الموت جوعًا أو الموت رميًا بالرصاص. ففي الوقت الذي يعاني فيه الناس من التجويع كسلاح، يجدون أنفسهم مضطرين للمخاطرة بحياتهم من أجل الحصول على لقمة العيش. لقد آن الأوان لإعادة النظر جذريًا في مفهوم المساعدات لغزة، ليس فقط من حيث الكمية والنوعية، بل من حيث الجهة التي تديرها والأهداف التي تقف وراءها. فالمساعدات الحقيقية لا تُرسل عبر فوهات مدافع الدبابات، ولا تُوزع تحت أعين القناصة. المساعدة الحقيقية تحفظ الحياة ولا تزهقها، تصون الكرامة ولا تهينها.