لا صوت في العالم يعلو على الصوت الأمريكي كل دبلوماسية هي دبلوماسية طواحين الهواء، أي مهزلة تلك حين يطرح الأمريكيون أنفسهم كوسطاء في غزة ولبنان ووجودهم بالشرق الأوسط مرهون بوجود إسرائيل، ألم يبلغ نتنياهو الأمريكيين "لولانا لما كان لكم موطئ قدم في الشرق الأوسط"، ألم يعلم نتنياهو لولا أمريكا دولته لاوجود لها، ولكن ما حدث في غزة أفقدهم صوابهم كيف لم تتمكن إسرائيل بالمساعدات العسكرية الهائلة من تحقيق الأهداف المعلنة للحرب بعدما تجاوزت ال600يوم، وقد تمهد لحرب المائة عام، ولعلها بدأت فعلاً!!، ولكن إسرائيل تواجه أزمة استراتيجية ووجودية، وتفقد اليوم ما أرعبت به المنطقة طيلة العقود الماضية من نظريات تفوق الردع والانتصارات الحاسمة، بالرغم من الانتصارات التكتيكية في تدمير المقاومة في غزة وجعل غزة مكان غير قابل للحياة، الآن نحن أمام محرقة جديدة تلوح في الأفق، إسرائيل تستبيح لبنان بطريقة ارهابية، لم تعد غزة وحدها مقبرة المدنيين، بل ربما تكون الضاحية الجنوبية مقبرة ثانية لهم، قد تكون جزءاً من انتصاراتها التكتيكية ولكنها لا تعالج القضايا الأساسية التي تواجهها إسرائيل.
ما يهم نتنياهو استمرار الحرب والقتل في غزة والعدوان على لبنان وسوريا، لا يريد الانسحاب من الجنوب اللبناني ولا الجنوب السوري، ولا يريد صفقة اطلاقاً، ولا يعنيه موضوع الأسرى، الخيار العسكري هو الخيار الوحيد لنتنياهو رغم أن الجيش يتكبد خسائر كبيرة بالعتاد والجنود، كيف سيواصل الجيش القتال في وقت يكثف فيها نتنياهو حملته العسكرية في قطاع غزة من دون دعم لوجستي؟!، أزمة غير مسبوقة يواجهها الجيش الإسرائيلي في غزة نقص بالذخيرة نتيجة مقاطعة غير رسمية من قبل عدة دول وشركات أجنبية والحاجة لا تقتصر على المعدات والذخيرة بل مقاتلين فقط تجاوز النقص عشرة آلاف جندي مع تهرب بعض الشباب من التجنيد الاجباري، بينما تبدو الغالبية الحكومية على وشك الانهيار بسبب خلاف حول تجنيد اليهود المتشددين، كان الجيش علمانياً مقاتلاً "بقرة مقدسة"، واليوم الجيش يعتبر خائناً في نظر المجتمع الإسرائيلي والتيار القومي الديني وفي نظر نتنياهو، هذا الصدام والخلاف في مسار الحرب برمتها عناوين كبرى للصدام بين المؤسسة العسكرية والنواة السياسية بإسرائيل ينذر بتغيير استراتيجي، هناك حالة انقسام استراتيجية في الدولة، وبذلك يتزامن وضع داخلي متأزم بوضع ميداني متأرجح، فشل عسكري، الجيش لم يستطيع اخلاء غزة، ولا القضاء على المقاومة فيها، ولم يستطيع اعادة أي من الرهائن وتحقيق أي هدف عملياتي سوى الابادة.
نتنياهو بات يدرك أن مشروع الصهيونية الدينية يصل إلى حائط يصطدم به بالداخل الإسرائيلي وربما يتحول إلى حالة من الصراع الداخلي الإسرائيلي، وبالتالي ما استطاع أن يبنيه على مدار سنوات طويلة قد يفقده بلحظه معينة ولذلك يدافع عن نفسه مشروعه وايديولوجيته، نتنياهو يقدم مصلحته الشخصية وبرنامجه ومنهاجه على حساب الدولة وهذه واحدة من أخطر المراحل التي تمر بها إسرائيل، نحن نتحدث عن عقلية تمردية استغلالية انتهازية متمثلة بشخصية نتنياهو ما يهمه بكل الأمر هو تثبيت أقدامه وسياسته، بما يمكن أن يمنحه مزيد من الكذب والتسويف لبرامجه وأهدافه، والمتاجرة بسردية الحرب وتنفيذها، وعندما يتكامل العامل الداخلي المرتبط مع عدم القدرة على تحقيق الأهداف واثبات قدرته على ادارة الصراع مع العامل الدولي المتمثل بالمحكمة الجنائية الدولية، يجعله يهرب إلى الأمام، ولكن لن يستطع التصعيد أكثر مما هو عليه الآن حتى يعيد ضبط الداخل والعلاقة الداخلية.
أمام كل هذه التفاعلات تبدو إسرائيل أمام تهديد وجودي غير مسبوق، إسرائيل اعتادت أن تمارس دور الضحية طيلة السنوات الأخيرة لم تكن تتوقع بعد كل هذه الجرائم التي ارتكبتها في غزة والتي على أثرها صدرت مذاكرات اعتقال غير مسبوقة من المحكمة الجنائية الدولية بشأن الاتهامات التي تأتي استكمالاً لمسار تحقيق أجرته المحكمة بشأن مجريات الحرب في قطاع غزة المستمرة منذ أكثر من 600 يوم، "جرائم ضد الانسانية واستخدام التجويع سلاحاً" بحق نتنياهو ووزير الدفاع المقال غالانت، ولكن بفعل هذا القرار إسرائيل تستشعر المزيد من القلق فيما يرتبط بقادة الجيش وحتى الجنود الذين قد يكونوا عرضة لهذه المحاكمات وتخشى إسرائيل أن يتم تكرار هذا النموذج القانوني لدى عدد من الدول التي تتخذ خطوات ضد إسرائيل، نتنياهو شخصياً يعيش أزمة داخلية وقضائية هو ملاحق من القضاء الإسرائيلي والآن عليه أن يتعامل مع القضاء الدولي، ذكريات مزعجة من الماضي وهواجس عزلة دولية خانقة في الحاضر تتضافر جميعها ضاغطة على أعصاب نتنياهو الذي لم ينتهي بعد من محكمة العدل الدولية لتتربص به مذكرة الجنائية الدولية.
عندما يتعلق الأمر بإسرائيل وجرائمها وادانتها تنتفض أمريكا وترمب الذي يتفاخر بصهيونيته ضد المحكمة والتشكيك بمصداقيتها واستقلاليتها، فرض عقوبات على قضاة في المحكمة الجنائية قرار يعتبر صفعة لإسرائيل ولأمريكا وترمب تحديداً، لكنه الاستثناء الإسرائيلي في السياسة الأمريكية، وهذا فشل سياسي أخر للإدارة الأمريكية الحالية، وقد يسهل على ترمب الانتقام من المحكمة بتجميد أية أصول لأربع قاضيات في الولايات المتحدة ومنعهن دخول الأراضي الأمريكية بعد أن اتهمها وزير الخارجية مارك روبيو "بأنها محكمة مسيسة، وقد شاركنا بشكل فعال في اجراءات غير قانونية وبلا أساس من جانب المحكمة ضد حليفتنا إسرائيل"، الموقف الأمريكي يؤشر أن العلاقة مع المحكمة الجنائية بشكل خاص والاتحاد الأوروبي بشكل عام مقبلة على فترة توتر جديدة بعد تأكيد دعمه للمحكمة واعتبارها "حجر زاوية العدالة الدولية"، ولكن اعتقد أن كل هذه الضغوط ستفشل أمام استقلالية المحكمة وهذا هو حجر الأساس في الدفاع عن موقفها الصلب ويشكل اجماع أوروبي عليه الراعية لهذه المنظمة.
مع افتراض أن هذا سيضيق الخناق على نتنياهو وعلى حكومته، وإن تسبب بضرر نفسي ومعنوي على إسرائيل وانتصار للمظلومية الفلسطينية، ولكن إسرائيل تزيد وتيرة قوتها التدميرية على قطاع غزة وعلى المنطقة، وتمارس مزيد من الضغط والعقوبات على السلطة والحالة الفلسطينية والتضيق على ادخال المساعدات الانسانية، والتهديد بضم الضفة واحتلال غزة، هذا هو المنطق الإسرائيلي ويثبت واقع الحال أن إسرائيل دولة فاشية، متهمة بجرائم الإبادة الجماعية الموصوفة أمام محكمة العدل الدولية، تمارس القوة ليخضع الشرق الأوسط لإرادتها، وهناك رؤية سلبية لدور أمريكا في هذه الحرب والوقوف الأعمى إلى جانب إسرائيل، وشعور إسرائيل أنها فوق القانون ليس في اطار هذه الحرب وانما على امتداد وجودها بسبب مواقف الغرب منها وتحديداً الولايات المتحدة الأمريكية سمح لها بهذه الغطرسة والتعالي، وهذا هو السياق الذي نتوقعه في سلوك إسرائيل طالما أن موقف أمريكا في حدته باعتبارها الدولة الوحيدة التي لها هيمنة سياسية واقتصادية وثقافية وعسكرية مطلقة في العالم وتضرب بكل مكان، بفرض هيمنتها وقوتها على الغرب والمحكمة الدولية بتعديل مسار هذا القرار، فالعالم لا يحكمه القانون والأخلاق بقدر ما تحكمه قوة أمريكا، تجاهل بقية العالم قد ينقلب إلى نقمة ولن يبقى نعمة كما تتصوره أمريكا، إسرائيل بجنونها العسكري كذلك بإخفاقاتها العسكرية تحولت إلى عبء على المصالح الاستراتيجية وخاصة في الشرق الأوسط، وبقاء هذه المصالح مرهون بحل القضية الفلسطينية، الوضع الحالي لن يستمر فهناك متغيرات وتباينات كبيرة يشهدها العالم، وما حدث خلال الأشهر الماضية في غزة خاصة على مستوى استهداف المدنيين غير الكثير من المفاهيم والانطباعات في كل أنحاء العالم، وغير الرأي العام العالمي والمجتمع المدني الذي يندد ويحمل إسرائيل مسؤولية قتل المدنيين ويعتبرها دولة ارهاب، وقد شهد العالم دول وامبراطوريات اعتمدت على مبدأ القوة والقتل انتهت إلى مزبلة التاريخ، من يسقط أولا" إسرائيل أم أمريكا؟!