من غزة إلى الخليج، هل يُفجر ترامب ونتنياهو الحرب الأوسع، أم يُفتح باب التعددية والتسوية بالمنطقة؟

حيفا أمس

 

 

في ليلة ستُسجل كمفصل استراتيجي في تاريخ الصراع الإقليمي، تجاوزت إيران "الخطوط الحمراء" التي كان قد رسمها الغرب، وأطلقت صواريخ دقيقة ومُسيّرات بدقة وذكاء مدروس نحو العمق الإسرائيلي بل والقدرة على تعطيل أنظمة الدفاع وسقوط صواريخ اسرائيل نفسها في قاعدة عسكرية لها، لتفتح بابا على واقع جديد يتمثل في ان إسرائيل لم تعد وحدها من يملك قرار المبادرة والردع، ولا ضمان الحماية الغربية بات حتميا كما كان.

لقد كشفت هذه الليلة أن الحسم لن يكون إسرائيلياً خالصاً، فتل أبيب باتت الحلقة الأضعف في مشهد يتجاوز قدراتها العسكرية والسياسية وفي ظل عزلنها الدولية ووقوفها امام العدالة والقضاء الدولي ومظاهرات الشعوب بحكم جرائم المحارق والإبادة والاستيطان. المسألة اليوم لا تتعلق فقط برد إيراني أو حسابات نتنياهو الداخلية، بل تتعلق بقرار أكبر. فهل يملك الغرب وفي مقدمته واشنطن الرغبة والقدرة على تحويل هذه الحرب إلى مواجهة إقليمية كبرى لحماية إسرائيل؟ أم أن الردع قد تغيّر، وأن النظام الدولي يدخل فعلياً مرحلة تعددية المعايير لا التفرد بها؟

ذلك هو التحدي الأخلاقي والاستراتيجي الأعمق الذي تطرحه تطورات الليلة، فهل تُستدرج المنطقة إلى حرب مفتوحة تشعل الخليج وبلاد الشام وغزة معاً، أم تُفرض تسوية جديدة بموازين مختلفة، لا تقوم فقط على تفوق القوة المزعومة، بل على الاعتراف بتحولات الواقع وصعود مقاومته؟

ففي زمن النار، حيث ترتجف الجغرافيا بين غزة وهرمز، تتقاطع الأجندات وتتداخل الخطوط الحمراء، وتُرسم خرائط الدم من جديد على طاولة المقامرة الاستعمارية الإسرائيلية ـ الأمريكية. لم يعد ما نشهده مجرد تصعيد، بل هو لحظة مفصلية تشير ان محاولة صياغة شرق أوسط جديد يُبنى على أنقاض كيانات مستنزفة وشعوب مقهورة قد أصبح اليوم يتهاوى.

تتحرك إسرائيل في الميدان كذراع ضاربة لرؤية ترامب، المتحررة تماما من قيود الأعراف الدولية، فيما يتصرف نتنياهو وكأن الزمن عاد إلى ما قبل أوسلو، مستندا إلى تفويض أمريكي مطلق وصمت إقليمي مُريب.

لكن تطورات هذه الليلة من فشل القبة الحديدية والأنظمة الاخرى الأمريكية، إلى اختراق العمق الإسرائيلي وايقاع الخسائر الكبيرة في مجالات حيوية، إلى غياب الردع الحاسم، شكّلت صدمة استراتيجية تُعيد ترتيب المشهد. فقد بدا أن إسرائيل، رغم تفوقها التقني الذي كانت قد روجت له وقبله بعض العرب، عاجزة عن احتواء الهجوم، وأن إيران ومَن خلفها باتوا شركاء فعليين في رسم معادلات القوة لا مجرد خصوم منبوذين.

أما إدارة ترامب، التي تسعى منذ البداية في محاولات تثبيت وقائع جيوسياسية تقلب الطاولة على الجميع من خلال رؤيتها لتصفية القضية الفلسطينية التحررية، تطويع الخليج في محور التطبيع، ومحاصرة إيران، مع تقليم أظافر الصين وروسيا في الشرق الأوسط، قد باتت في انهيار لتكشف حجم الأزمة السياسية والعقائدية الأمريكية اساسا وما يرتبط بها إسرائيليا.

غير أن مشروع إعادة هندسة "الشرق الأوسط الجديد" الذي تنشده واشنطن وتل أبيب، قد يكون اليوم في مهب الريح، أمام تحولات موازين الردع، وتغير المشهد الإقليمي لصالح قوى مقاومة هذا المشروع الاستعماري الجديد، وصعود محور متعدد الأقطاب يعيد تشكيل قواعد اللعبة بالمنطقة وبما له من تداعيات دولية.

روسيا، المثقلة بجبهة أوكرانيا تتحرك بحذر، لكنها تتابع بانتباه انهيار منظومة الردع الإسرائيلي وتَمدد التهديد الإقليمي. مكالمة بوتين ـ ترامب، وإن بقيت في الظل، تعكس سعي موسكو لترسيم حدود الاشتباك والتأثير، دون منح واشنطن حرية كاملة في تحديد مصير المنطقة لوحدها اليوم، ودون السماح بهزيمة إيران وفق التحالف الإستراتيجي والمصالح المشتركة بينهم.

أما الصين، فتُراقب سوق الطاقة بعيون مفتوحة. فكل صاروخ يطلق من طهران باتجاه تل أبيب وحيفا يعني تهديداً مباشراً لتدفق النفط عبر مضيق هرمز، ويمنح بكين فرصة لمناورة استراتيجية طويلة النفس، كقوة بديلة فيما بعد الحرب، وفي دعمها بالاشتراك مع روسيا في محاولات تأمين الأمن والسلم الدوليين في مواجهة عقلية تهديدهما والسيطرة الأمريكية الأحادية على العالم واسقاطها.

وفي أوروبا، يكشف الصمت عن مأزق عميق، بين ولائها التقليدي لواشنطن الذي بدا بالتزعزع منذ فترة، وضغوط الشارع الأوروبي الشعبي المعارض للعدوان الإسرائيلي وتحديدا في غزة ولسياسات حكوماته الأوروبية، تقف القارة العجوز على حافة أزمة تتمثل في لاجئون جدد، أسعار طاقة ملتهبة، وشبح الركود ومواجهة شعوبها. كلها أوراق تدفع الأوروبيين إلى البحث عن حلول تجنبهم الانفجار القادم والتأثر بارتداداتها، دون قدرة على التأثير الحقيقي.

الخليج العربي بدوره، يتأرجح بين نار الواقع ووعود التطبيع. السعودية والإمارات وإن لزمتا الصمت، تدركان أن اندلاع حرب كبرى سيقلب معادلات الاستقرار الهش، ويضع التطبيع في مهب الانفجار الشعبي، ويجر المنطقة إلى حافة المجهول.

في هذه الأثناء، تنكسر محاولات فرض ثقافة الهزيمة والقبول بالأمر الواقع. وتعود فلسطين إلى مركز المشهد، لا كقضية وطنية تحررية فقط، بل كمفتاح لأي توازن قادم بالمنطقة تمنع إسرائيل من الاستفراد بالقرار أو فرض التسويات السياسية بالقوة.

تصريح ترامب بأنه "غير منخرط مباشرة"، يحمل في طياته أكثر من مناورة. فهو إعلان انسحاب من الاشتباك المباشر، لكنه في ذات الوقت تلويح بتدخل مؤجل إذا ما تحققت الشروط الأمريكية. وهنا بالضبط، تتحرك روسيا والصين لتقديم نفسيهما كوسطاء يضمنون التوازن لا التفرد وباتجاه التسوية لا الإملاء.

وإذا كانت إيران قد فرضت معادلتها النارية الليلة وما سيتبعها وفق التصريحات الإيرانية، في الحسابات الإقليمية، فهذا تطور لم يعد ممكنا تجاوزه.

لقد أصبح المشهد واضحاً، فإما أن يواجه التحالف الأمريكي ـ الإسرائيلي لحظة ارتطامه بجدار الواقع المتغير، أو أن يُعاد تشكيل "الشرق الأوسط الجديد" لا وفق مشيئة واشنطن وتل أبيب، بل وفق توازنات مغايرة تفرضها الشعوب، ومقاومتها لمشاريع التصفية و"التفوق اليهودي من زاوية العقيدة الصهيونية " وتحولات الردع.

ووسط كل هذا، يبدو أن إسرائيل نفسها، رغم كل نيرانها، تقترب من لحظة الانكشاف الكامل. فالمجتمع الإسرائيلي، الذي طالما رُوج له كقلعة متماسكة، يعيش اليوم تصدعاً نفسياً واقتصادياً وأمنياً وحزبياُ ومجتمعياً غير مسبوق في ظل نظام فاشي يقوم على الأساطير الدينية التلمودية، كما وتهتز صورة "الجيش الاخلاقي الذي لا يقهر"، وتضعف قبضة الردع، وتتآكل الثقة بقيادة اسرائيلية تغرق في مغامرات خارجية لتمنع عن غيرها ما تبيح لنفسها به دون رؤية للخروج.

يبقى الفلسطيني كما كان دائما عبر تاريخ كفاحه الوطني في قلب المشهد، لا ضحية فقط، بل رمز الصمود وإرادة التحرر الوطني. ومن فلسطين تبدأ خرائط العدالة والمساواة، ومنها يُقاس ميزان الإنسانية، ليس بالقوة الغاشمة، بل بإرادة من يرفض الخنوع ويصنع التاريخ بإرث النضال وبوصلة الحرية.

 

 

 

Loading...