في تطور لافت يعكس ما يشبه التحول في مزاج المؤسسة العسكرية الإسرائيلية تجاه الحرب على غزة، نُشر مؤخرًا مقطع فيديو جوي على حساب المراسل العسكري "إيتاي بلومنتال"، يُظهر مشهدًا نادرًا لفلسطيني يخرج من بين أنقاض حي مدمر ويتجه راكضًا نحو دبابة إسرائيلية، ملقيًا عبوة ناسفة عليها، بعد لحظات من استهداف دبابة أخرى بصاروخ مضاد للدروع. المشهد لا يمكن عزله عن السياق العام للحرب، ولا عن توقيته الحساس، بل يبدو وكأنه يحمل رسائل تتجاوز حدود التوثيق الميداني، إلى ملامسة حدود السياسة والعقيدة القتالية والقرار الاستراتيجي داخل الجيش الإسرائيلي نفسه.
اللافت في هذا الفيديو، الذي لا يمكن أن يكون قد وصل إلى الصحفي بلومنتال دون ضوء أخضر عسكري، هو التناقض الصارخ مع ما تدّعيه الرواية الإسرائيلية الرسمية من سيطرة عسكرية على الأرض وإنهاك قدرات المقاومة. فالمشهد، الذي صُوّر من الجو، أي من قبل طائرة استطلاع عسكرية أو مسيّرة إسرائيلية، يوثّق لحظة فشل استخباراتي وتكتيكي في منع فلسطيني من تنفيذ هجوم مباشر على دبابة في وضح النهار، وفي منطقة يُفترض أنها "مسيطر عليها ميدانيًا" من قبل الجيش الإسرائيلي. نشر فيديو بهذه الدقة والوضوح، في توقيت بالغ الحساسية، لا يمكن تفسيره إلا في إطار التوجه المقصود نحو خلق مناخ يهيّئ الرأي العام الإسرائيلي لتقبّل خيار لم يكن مطروحًا بجدية قبل أشهر: الانسحاب من غزة، أو الموافقة على هدنة لتبادل الأسرى على الأقل.
توقيت نشر الفيديو ليس عابرًا؛ فقد جاء في الليلة التي تسبق تقديم خرائط إسرائيلية جديدة في مفاوضات الدوحة، وهي خرائط يُتوقع أن تحدد معالم المرحلة القادمة في غزة، على ضوء التفاهمات المحتملة لتبادل الأسرى. الخرائط الأولى، المعروفة إعلاميًا بـ"خرائط سموترتش"، والتي حملت توجهات واضحة نحو الضم والسيطرة الإدارية المباشرة على القطاع، لم تحظَ بدعم الجيش الإسرائيلي، الذي يدفع منذ فترة إلى ما يُعرف بـ"ترتيبات أمنية محدودة"، ونموذج لا يشبه الاحتلال المباشر، بل يتقاطع مع ما جرى في جنوب لبنان عام 2000. ومن هنا، يمكن اعتبار نشر الفيديو رسالة غير مباشرة بأن الخرائط القادمة لا تتماشى مع قناعات الجيش، وأن التصعيد لم يعد يخدم المصالح الأمنية والعسكرية، بل يضاعف الكلفة البشرية والمعنوية واللوجستية للقوات المتبقية في الميدان.
ما يزيد من وضوح هذا التوجه هو غياب الرقابة العسكرية الصارمة على الفيديو، وهو أمر نادر في الظروف الطبيعية، فكيف في زمن حرب؟! فقد جرت العادة أن تكون الرقابة العسكرية الإسرائيلية شديدة الصرامة تجاه كل ما يُنشر عن العمليات القتالية، خشية من تسريب معلومات لـ"العدو" أو من هزّ ثقة المجتمع الإسرائيلي بالجيش. لكن في هذا المشهد، بدا وكأن الجيش نفسه قرر استخدام أدوات الإعلام لتوجيه رسالة ضمنية، ليس فقط للداخل الإسرائيلي، بل أيضًا للمفاوضين في الدوحة، فحواها: لم نعد نمتلك رفاهية الاستمرار في هذه الحرب المفتوحة، وحان وقت المساومة الجدية على إنهائها، ولو على حساب طموحات اليمين المتطرف.
هذا المشهد يعكس بوضوح تباينًا داخليًا آخذًا بالاتساع في إسرائيل بين القيادة السياسية والقيادة العسكرية حول مستقبل قطاع غزة. في حين يتمسك سموترتش وبن غفير بخيارات الضم والتطهير والهيمنة المباشرة، يتحرك الجيش في مسار آخر، لإدراكه لمحدودية الإنجاز العسكري، واستنزاف الجنود في بيئة معادية لا يمكن السيطرة عليها دون كلفة هائلة. الجيش، الذي خسر جنوده في كمائن داخل الأنفاق وفي ساحات الاشتباك المفتوحة، لم يعد قادرًا على بيع وهم "الانتصار الكامل" للرأي العام، خاصة في ظل قدرة الطرف الآخر على استعادة زمام المبادرة، حتى بعد أشهر من القصف والاجتياح.
نشر الفيديو لا يبدو حادثًا عرضيًا، بل خطوة محسوبة ضمن ما يشبه الحرب النفسية المعاكسة، موجّهة هذه المرة للداخل الإسرائيلي، لإعادة تشكيل وعيه تجاه خيار الانسحاب باعتباره ليس هزيمة، بل ضرورة استراتيجية. وفي خلفية هذه الصورة، يمكن رصد تغير في الخطاب الإعلامي لبعض المؤسسات القريبة من الجيش، والتي بدأت تدفع نحو تبنّي نموذج "ما بعد الحرب"، بما يتضمنه من هدنة طويلة الأمد، وتبادل أسرى، وتفكيك تدريجي لمسرح العمليات.
السؤال الجوهري الذي يطرحه هذا المشهد: هل بدأ الجيش الإسرائيلي فعلاً بتجهيز الرأي العام الإسرائيلي لقبول النهاية؟ وهل بات واضحًا في صفوفه أن لا أفق لحسم عسكري في غزة، وأن المعركة القادمة يجب أن تُدار على طاولة المفاوضات، لا بين أنقاض المنازل في مدن وبلدات قطاع غزة؟ ربما نعم. فقد تُرك الفيديو يتكلم بلغة لم تعد كلمات الجنرالات قادرة على التعبير عنها، لغة تقول بوضوح: "لقد وصلنا إلى حدود القدرة، وحان وقت التراجع بخسائر أقل."