بين هنري كيسنجر وفيليب حبيب تُرسم صورة توم بارّاك، وإن كان الرجل يختلف عن الاثنين لأنّه قادم من خارج المدرسة الدبلوماسية الأميركية. إلّا أنّه تلميذ بالفطرة في مدرسة كيسنجر للواقعية السياسية، ونموذج مستنسَخ عنه في دبلوماسية الوسيط المتنقّل.
هو رجل أعمال ووسيط عقاري نشأ بين المال والأعمال. تعلّم من كيسنجر المقاربات الدبلوماسية في الأزمات، ويلتقي مع فيليب حبيب بالنَفَس المشرقي في التفاوض وإدارة الملفّات. إلّا أنّه فوق كلّ ذلك فينيقيٌّ حتّى النخاع، وكأنّ ابن زحلة عاش على شاطئ جبيل حين اكتُشِف الصِباغ الأرجوانيّ وصُنِع الحرف.
اللغة عند توم بارّاك وظيفتها كحروف الأبجديّة عند الفينيقيّين، وسيلة للتواصل والاتّصال وعقد الصفقات. كما جعل الفينيقيون الحرف أداة تجارية لاقتحام مئات الأسواق، جعل بارّاك بلاغة الكلمة مفتاحاً للإقناع السياسي والواقعية القاسية: “المسؤولون في لبنان يلعبون طاولة الزهر وأنا ألعب الشطرنج”، أي أنّ المسؤولين اللبنانيّين يلعبون طاولة الزهر “عضمة كلب”، أي “النرد” حيث الحظّ يجلب النصر. فيما بارّاك يلعب الشطرنج، حيث الحجارة إمّا ملك أو بيادق تدافع عن الملك بالعقل والتخطيط.
يلتقي بارّاك مع كيسنجر في هواية صناعة المستحيل في السياسة، ويتميّز عنه ببلاغة العبارة الدبلوماسية في السعي إلى هذه الصناعة. تجمعه مع فيليب حبيب، إضافة إلى لأصوله اللبنانية الزحلاوية، لطافة التفاوض من دون ارتخاء، وابتسامة الرجل المشرقيّ من دون فقدان للهيبة. يقسو على محاوريه بواقعيّة التشابيه البلاغيّة واستحضار التاريخ. تماماً كما فعل قبل أيّام عندما حذّر لبنان من العودة إلى بلاد الشام. يروي عنه أحد أصدقائه وشركائه في الاستثمار، أنّه ماهر بصناعة الأصدقاء، يسعى دائماً إلى تصفير المشاكل والصدامات حتّى تخال أنّ رصيده خالٍ من الأعداء.
الرّياضة مفتاح حظّه العربيّ
كانت الرياضة مفتاح حظّ توم بارّاك في العالم العربي. عبر لعبة “الاسكواش” فُتحت له أبواب المملكة العربية السعودية قبل ما يقارب 50 عاماً، وعبر كرة القدم عقد أكبر الصفقات مع قطر حين اشترى نادي “باريس سان جيرمان” الفرنسي ثمّ باعه لشركة قطر للاستثمار الرياضي عام 2012.
بدأت القصّة في السعودية عام 1972 خلال وجوده مع وفد أميركي للاستثمار. سأله أحد مديري شركة “أرامكو” إن كان يعرف أحداً في الوفد الأميركي يمارس رياضة “الاسكواش” فقال له بارّاك: “أنا ألعب الاسكواش”. وعلى مدى يومين مارس اللعبة مع هذا الشابّ السعودي ليتبيّن لاحقاً أنّه أحد أبناء الملك فيصل بن عبدالعزيز. فكانت البداية لعلاقة وطيدة مع الأسرة الحاكمة.
بدأت العلاقة مع أبناء الملك فيصل في أوائل السبعينيات واستمرّت لعشرات السنوات، حتّى بات شريكاً للأمير الوليد بن طلال في شركة “فيرمونت إند رافلز” التي تمتلك فنادق في مكّة ودبي والقاهرة. أنتجت هذه العلاقة العشرات من الشركات. في حوار صحافي مع مجلّة “نيويورك تايمز” أطلق بارّاك على نفسه لقب ممثّل الأبناء لدى الولايات المتّحدة، قاصداً أنّه ممثّل أبناء الملك فيصل في الولايات المتّحدة الأميركية.
علاقة صنعت الكثير
علاقة بارّاك مع رجال المملكة وأمرائها ستصنع الكثير الكثير. لا بل ستغيّر العالم برمّته. في عام 1994 واجه دونالد ترامب أزمة ماليّة خانقة. فاتّصل أحد الموظّفين في بنك “تشيس مانهاتن” بتوم بارّاك وقال له: “مشاريع ترامب العقارية تواجه أزمة ماليّة كبيرة وأنت الوحيد الذي تعرف كيف تتعامل مع ترامب، فهل يمكنك أن تساعدنا في حلّ هذه الأزمة؟”.
انطلق بارّاك فوراً في جولة بالشرق الأوسط، وتحديداً في السعودية، وتمكّن من تحقيق تعهّدات ماليّة للاستثمار في المشاريع المتعثّرة لترامب. ثمّ بعد 20 عاماً فتح طريق ترامب رئيساً للولايات المتّحدة إلى المملكة العربية السعودية منظّماً اللقاء الأوّل بين الأمير محمّد بن سلمان والرئيس دونالد ترامب. هذا اللقاء صنع صداقة عميقة بين الأمير الشابّ والرئيس الأميركي. كيف لا وهذه الصداقة عرّابها توم بارّاك الذي قال عنه شريكه وليام روجرز إنّه “يمكنه أن يقول لترامب ما لا يرضى أن يسمعه من الآخرين. هو الوحيد القادر أن يقول لترامب إنّك على خطأ، وهو أمر لا يجرؤ عليه سوى القلائل”.
تصفه صحيفة “واشنطن بوست” بالقول: “توماس بارّاك الذي يُعرف اختصاراً بتوم بارّاك واحد من كبار الأغنياء وأقرب أصدقاء الرئيس دونالد ترامب، هو الذي عمل أسابيع لتمهيد السبيل أمام لقاء ترامب بالقادة الخليجيين في الرياض في أيّار 2017”. إنّه التاريخ الذي سيرسم المستقبل، وإن تعثّر ذلك بخسارة ترامب للانتخابات أمام جو بايدن فالعودة أتت في عام 2024 عندما وقف الرئيس ترامب في منتدى الاستثمار في المملكة العربية السعودية في 13 أيّار الفائت معلناً قرار رفع العقوبات عن سوريا وأطلق الأمير محمد بن سلمان تلك التحيّة بيديه على صدره. تحيّة تحوّلت إلى مركز وشعار. كان توم بارّاك يجلس مبتسماً وكأنّه حقّق الصفقة الكبرى في حياته. وكان تعليقه الأوّل: “إنّ رفع العقوبات الأميركية عن سوريا سيخدم غاية واشنطن، وهي هزيمة داعش ومنح الشعب السوري فرصة مستقبل أفضل”.
اللّبنانيّون وبارّاك
ما يغفل عنه اللبنانيون أنّه حين هاجر أجداد توم بارّاك من مدينة زحلة إلى الولايات المتّحدة عام 1900، لم تكن تلك العائلة لبنانيّة، ولم يكن أساساً قد أُعلنت دولة لبنان الكبير. كان سكّان زحلة أقرب إلى والي دمشق من والي جبل لبنان، أو والي بيروت. وعندما استعاد توم بارّاك وأولاده جنسيّتهم اللبنانية ودخل وزارة الداخلية، حيث التقى وزير الداخلية حينذاك نهاد المشنوق، كان يستطلع ملامح دولة لبنان الكبير. لبنان بالنسبة إليه مختصر بمطالعات شابّ يحنّ إلى أصوله ومعارف لبنانيّين يملكون الكثير الكثير من الطموح، وربّما أبرزهم الرئيس الشهيد رفيق الحريري الذي التقى به مراراً وتكراراً، بخاصّة في العاصمة السعوديّة الرياض.
اتّكأ السياسيون في لبنان على أصول بارّاك الزحلاويّة ونسوا أنّ أبناء زحلة لطيفو المعشر بعد تناول التبّولة و”كاس العرق”، إلّا أنّ من الصعوبة التفاهم معهم عند الاشتباك والصدام. أعطى اللبنانيّين كلّ المفردات الجميلة ورسم لهم كلّ الخطوط الدقيقة وكأنّه يقول: تمتّعوا بالمفردات والتزموا الخطوط. المتعة لا تبرّر تجاوز تلك الخطوط، فقال:
1- الثقافة السياسية اللبنانية هي الإنكار ثمّ الالتفاف ثمّ التملّص، ومهمّتنا تغيير ذلك.
2- كلّ شيء يتغيّر وإذا لم تريدوا أن تتغيّروا فأخبرونا وسننسحب.
3- إذا أراد لبنان الاستمرار في ركل العلبة على الطريق فلن نكون هنا في الأسابيع المقبلة.
4- إذا لم يرَ أحد ما يحدث من حولنا فهو واهم.
5- الدروس المستفادة ليست “هل تقع الحرب؟”، بل كيف نمنع الحرب.
6- اللبنانيون والسوريون مرتبطون منذ أيّام بلاد الشام.
7- السوريون لا ينظرون إلى الحدود الخارجية. هم يحاولون ببساطة إدارة الداخل.
إنّها تعابير تشير إلى المدرسة الواقعية الكيسنجريّة التي ينتمي إليها توم بارّاك فطريّاً، كأنّه وُلِد وفي فمه ملعقة من الدبلوماسيّة. هل فهم اللبنانيون ذلك؟