السلطة بين شبح الانهيار وتصفية القضية الوطنية التحررية، آن أوان تحرك وطني شامل

 

 

 

بيان مجلس الوزراء الصادر أمس في 18 تموز، الذي حذر من احتمال توقف المؤسسات الرسمية عن تقديم خدماتها الأساسية بسبب احتجاز أموال المقاصة من جانب دولة الاحتلال، يعكس خطورة المشهد لكنه لا يرتقي إلى مستوى التحدي الوجودي الذي يواجه شعبنا وقضيتنا الوطنية.

لقد باتت الأزمة المالية التي يفرضها الاحتلال علينا وبسبب عدم إيفاء الأشقاء بالتزاماتهم المالية وفق قرارات القمم العربية، إلى جانب عدم تنفيذ سياسات التقشف الحكومية وتخفيض فاتورة المصاريف وعدم اتخاذ اجراءات حقيقية لوقف إهدار المال العام ووقف مظاهر الفساد، تلقي بتداعياتها الاجتماعية والوظيفية، وتشكل جزءاً من مشهد أشمل وأكثر فتكاً، يتمثل في استمرار الإبادة الجماعية في غزة، وتصاعد العدوان  على الضفة والقدس وتنفيذ مخططات الاستيطان والضم والتهجير والتجويع ومحاصرة حركة التنقل والسفر والاقتحامات اليومية بما يرافقها من أعمال قتل وتدمير وهدم ممنهج بالمخيمات والقرى والمدن وتحديداً بالمناطق المصنفة "أ" ، ومحاولات فرض تسوية أمريكية إسرائيلية تُنهي القضية الفلسطينية عبر مقايضة حقوقنا الوطنية بما يسمى "حلولاً إنسانية أو فرض حلول اقتصادية أمنية تحت الاحتلال لا تلبي الحد الأدنى من الحقوق السياسية المشروعة الغير قابلة للتصرف".

في هذا السياق، تبدو ردود الحكومة الفلسطينية محصورة في إطار تقني وبيروقراطي، دون خطة طوارئ وطنية شاملة وعاجلة، أو انفتاح فعلي على القوى السياسية والمجتمعية والاقتصادية الوطنية لمواجهة الهجمة السياسية الاقتصادية وتداعياتها على ارتفاع نسبة الفقر والبطالة، ومحاولات بعض مراكز النفوذ من جني مكاسب نتيجة واقع الأمور على حساب المواطن والمصلحة العامة.

فالاكتفاء بالتلويح بتقليص الدوام أو إيقاف بعض الدوائر، لا يعكس حجم الكارثة ولا يقدم خطة وطنية تقوم على أساس الصمود والاقتصاد المقاوم، أو أن يفتح أفقاً سياسياً لمواجهتها خاصة في شأن وقف المحرقة في غزة والضم بالضفة الغربية.

وسط هذه الصورة، نرى أن تغييب وغياب الفعل السياسي من منظمة التحرير بمكانتها القانونية الدولية وبصفتها الممثل الشرعي والوحيد لشعبنا، والذي لا يمكن الاستمرار به كمخرجات لاتفاقات أوسلو وملحقاتها التي وصلنا بها إلى ما نحن عليه اليوم، والذي بات أمراً غير مقبول أو مفهوم يستوجب فيه إعادة فهم الأدوار وعلاقة السلطة بالاحتلال. فبينما يُكتب مستقبل جزء من الوطن الواحد والمنطقة على طاولة مفاوضات في الدوحة، ويتم التفاهم على خرائط ومهام جديدة، تغيب المنظمة التي تحتاج الى استنهاض دورها وفعلها كقيادة سياسية موحدة وفق الافتراض الطبيعي لها عن المشاركة والتأثير، بل وتبدو منشغلة في إدارة العجز من خلال قرارات حكومة السلطة الوطنية، لا في مواجهته بسياسات واضحة من جهة. كما تبدو "حركة حماس" من جهة أخرى منشغلة ببحث مستقبل استمرار دورها ووجودها في ظل تصعيد جرائم الاحتلال اليومية التي جعلت من غزة مكاناً غير قابل للحياة سوى بإرادة أهلنا هناك ومعجزاتهم بالصمود والبقاء. وبين الحالتين يتزايد التهديد بشأن حاضر ومستقبل المشروع الوطني التحرري الجامع على أساس وحدة الأرض والشعب والقضية.

ما يجري اليوم يتجاوز حدود الأزمة المالية، إنه تهديد لبنية النظام السياسي الفلسطيني برمته وللوحدة الجغرافية لكامل الوطن وللنسيج الاجتماعي وللقدرات الاقتصادية، وتآكل للشرعية الوطنية والشفافية وفصل السلطات، في ظل غياب الأفق وتفكك الجبهة الداخلية واتساع الفجوة بين القيادة والشعب، وعجز المجتمع الدولي عن فرض أي التزام على إسرائيل، بل وتواطؤ بعض أطرافه، لا سيما الولايات المتحدة، وتهرّب فرنسا من مسؤولياتها كدولة مستضيفة لاتفاق باريس الاقتصادي، وتضارب مواقفها بشأن "وعد ماكرون" بالاعتراف بدولة فلسطين مع اقتراب عقد المؤتمر الدولي بالرعاية المشتركة السعودية الفرنسية الأيام القادمة، في ظل مواقف أوروبية  تتسم بالنفاق والتراجع عن مسؤولياتها السياسية والأخلاقية والقانونية.

من هنا، فإن المخرج الحقيقي لا يكمن في إدارة الأزمة أو الارتهان لوعود لا تستجيب إلى مسألة إنهاء الاحتلال الاستيطاني الإحلالي أولاً، بل في إعادة صياغة الرؤية الوطنية الديمقراطية الجامعة لمواجهة أخطار المشروع الأمريكي الإسرائيلي بالمنطقة. وهذا لن يتم إلا عبر تحرك فاعل وعاجل لمنظمة التحرير الفلسطينية وبالمقدمة من مكوناتها حركة "فتح" باعتبارها قائدة التحرر الوطني وفق فكرة الانطلاقة، بما يستوجب من اجراءات تفعيل دورها وعقد مؤتمرها العام الثامن واستنهاض كافة مكونات الحركة الوطنية التي خاضت غمار الكفاح الوطني عبر سنوات الاحتلال لأكثر من نصف قرن، ويدفع باتجاه عقد اجتماع فوري للمجلس الوطني الفلسطيني على قاعدة التمثيل الوطني الحقيقي الكامل والواسع يأخذ بعين الاعتبار كيفية وخصوصية مشاركة شعبنا في غزة وتعزيز مقاومته، وبمشاركة جميع قوى الحركة الوطنية والشخصيات المستقلة والشباب والمرأة ومؤسسات المجتمع الأهلي في الداخل والشتات.

إن لم يكن هذا هو الوقت المناسب لإعادة ترتيب البيت الفلسطيني، فمتى؟

هل ننتظر مزيداً من الانهيار، أم فرض تسوية أمر واقع تقوم على تكريس الفصل الجغرافي وإقامة المعازل وتنفيذ مشروع إسرائيل الكبرى، أم نشوء بدائل مفروضة خارج الإرادة الشعبية تحت شعارات "السلطة المتجددة" التي يدفع إليها الغرب؟

إن الفرصة لا تزال قائمة، لكنها تضيق بسرعة، وإذا لم يُبادر الكل الوطني لتحمل مسؤولياته، فسيُكتب هذا التخاذل في سجل التاريخ، لا كمجرد عجز، بل كتواطؤ بالصمت أمام محاولة تصفية القضية الوطنية التحررية الفلسطينية.

 

 

 

Loading...