منذ أشهر، تحوّل قطاع غزة إلى سجن مفتوح، حيث يُحاصر أكثر من مليوني فلسطيني تحت وطأة حصار خانق يمنع دخول الغذاء والدواء والوقود. هذه ليست سياسة عشوائية، بل هي استراتيجية ممنهجة تستخدمها إسرائيل كسلاح حرب لتركيع الشعب الفلسطيني وكسر إرادته. فالجوع، كما يثبت التاريخ، أداة فعالة في يد القوى الاستعمارية لقمع الشعوب وإخضاعها. اليوم، يعيش سكان غزة معركة يومية للبقاء، حيث تحوّلت مطاحن الدقيق ومخازن القمح إلى أهداف عسكرية، وأصبح البحث عن رغيف خبز مغامرة قد تودي بالحياة.
قوات الاحتلال لا تكتفي بمنع وصول المساعدات الإنسانية، بل تستهدف بشكل منهجي البنية التحتية للغذاء. ففي أكثر من مناسبة، قصفت مطاحن الدقيق ومخازن القمح، مما أدى إلى شحّ حاد في المواد الأساسية. وفقاً لتقارير الأمم المتحدة، فإن 93% من سكان غزة يعانون من انعدام الأمن الغذائي، بينما يعتمد 80% منهم على المساعدات الدولية للبقاء على قيد الحياة. هذه الأرقام ليست مجرد إحصاءات، بل هي مؤشر على جريمة حرب ترتكب في وضح النهار وفي بث مباشر على الهواء.
المشهد في غزة اليوم يشبه كابوساً لا ينتهي: عشرات العائلات تنتظر لساعات أمام المخابز على أمل الحصول على رغيف خبز، بينما يخاطر آخرون بحياتهم في رحلات بحث مضنية عن أي مصدر للغذاء. بعضهم يدفع الثمن غالياً، حيث تحوّلت نقاط توزيع المساعدات إلى "مصائد موت" بعد أن استهدفتها القوات الإسرائيلية برصاصها وبقذائفها. وكما وثّقت منظمات حقوقية، فإن هذه الهجمات ليست أخطاءً عسكرية، بل جزءاً من سياسة عقاب جماعي تهدف إلى إجبار الفلسطينيين على الاستسلام.
التجويع ليس تكتيكاً جديداً في تاريخ الصراعات، بل هو سلاح قديم استخدمته قوى الاستعمار عبر التاريخ. ففي الحرب العالمية الثانية، حوصرت لينينغراد لمدة 872 يوماً، مات خلالها أكثر من مليون شخص جوعاً. وفي العصر الحديث، استخدم النظام السوري الحصار والتجويع ضد المدن المعارضة. اليوم، تعيد إسرائيل إحياء هذه الأساليب الوحشية، متجاهلةً كل الأعراف الدولية التي تحظر استخدام الجوع كسلاح حرب. كما يقول المؤرخ البريطاني "آدم هوج" في كتابه "تاريخ الحصار": "عندما تفشل القنابل في كسر الإرادة، يتحول الطعام إلى سلاح".
لكن الضحايا ليسوا فقط المدنيين العزل، بل أيضاً الصحفيون الذين يحاولون كشف الحقيقة. ففي تقرير صادم، أعلنت وكالة الصحافة الفرنسية أن مراسليها في غزة يعانون من الجوع ونقص المياه، بينما يخاطرون بحياتهم لتوثيق المجازر اليومية. هذا ليس عرضياً، بل هو جزء من سياسة تهدف إلى خنق الرواية الفلسطينية وإسكات الأصوات التي تكذب الرواية الإسرائيلية. فالجوع هنا لا يستهدف الأجساد فقط، بل أيضاً الذاكرة والرواية. وكما كتب الصحفي الفلسطيني "محمد الشيخ" في تغريدة مؤثرة: "عندما يجوع الصحفي، تجوع الحقيقة أيضاً."
جمعية صحفيي وكالة الصحافة الفرنسية (SDJ) ومعها إدارة الوكالة أصدرتا نداءً طارئاً حذّرتا فيه من أنّ فريقا من الصحفيين الفلسطينيين القلائل المتبقّين للوكالة داخل غزة (كاتب حر، ثلاثة مصوّرين، ستة مصوّري فيديو) مهدّدون فعلياً بالموت جوعاً تحت الحصار الإسرائيلي، وقالتا "نرفض أن نراهم يموتون". وقالت جمعية صحفيي الوكالة رغم أنّ الصحفيين الفلسطينيين يتقاضون أجورهم الا أنه "لا يوجد ما يمكن شراؤه، أو السلع تباع بأسعار فلكية"، وبينما تآكلت قواهم البدنية إلى حدّ أنهم لم يعودوا قادرين على الحركة لتغطية الأحداث.
منظمات الدفاع عن الحريات الصحفية أفادت بأن ظروف عمل الصحفيين الفلسطينيين لا تحتمل حيث يواجهون النزوح، القصف، ونقص الغذاء لحدّ المجاعة، واستخدام التجويع وسيلةً لـ "إسكات الحقيقة". لجنة حماية الصحفيين نبّهت إلى تكتيك "جَوِّع الصحافة، تسْكِت الحقيقة"، فيما اتهم الاتحاد الدولي للصحفيين إسرائيل بتسليح التجويع لإخراس الشهود. إن أثر ذلك على السردية العالمية بالغ الخطورة: عندما يُستنزَف الصحفيون المحليون - وهم "العيون والآذان" الوحيدة تقريباً للعالم داخل غزة - تتسع الفجوة بين الوقائع الميدانية ورواية رسمية تبثّها الجهات الإسرائيلية العسكرية والإعلامية؛ ويُملأ فراغ المعلومات بتغذيات أحادية تعيد إنتاج سردية الإحتلال.
من الناحية القانونية، فإن سياسة التجويع التي تمارسها إسرائيل تُعد جريمة حرب بموجب القانون الدولي الإنساني. فالمادة 54 من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف تحظر بشكل صريح تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب. كما أن قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2417 (2018) يُجرّم استخدام التجويع كتكتيك عسكري. ومع ذلك، تستميت إسرائيل في انتهاك هذه القوانين أمام صمت دولي مخجل. السؤال الذي يفرض نفسه هنا: هل سيتحرك المجتمع الدولي لوقف هذه الجريمة، أم سيبقى متفرجاً حتى يتحول التجويع إلى سلاح شرعي في الحروب القادمة؟
المطلوب اليوم هو تحرك عاجل. فكل دقيقة تمر تعني مزيداً من المعاناة، ومزيداً من الأرواح التي تُزهق بصمت. يجب على المجتمع الدولي فرض عقوبات حقيقية على إسرائيل، وإجبارها على فتح المعابر أمام المساعدات الإنسانية. كما يجب محاسبة كل من شارك في هذه الجريمة أمام المحكمة الجنائية الدولية. لكن الأهم من ذلك، هو ألا نسمح للعالم أن يعتاد على مشاهد الجوعى في غزة، لأن الصمت يعني التواطؤ. وكما قال المفكر الأمريكي "نعوم تشومسكي": "إذا كنت محايداً في ظل الظلم، فقد اخترت جانب الظالم".