من فيتنام إلى جنوب أفريقيا ... هل تشهد إسرائيل الانكشاف الأخلاقي عالميا؟

 

 

 

تزداد عزلة إسرائيل الدولية يوماً بعد يوم على وقع المجازر المتواصلة في قطاع غزة وسياسات القمع والتمييز التي تمارسها ضد الشعب الفلسطيني، سواء في الأراضي المحتلة عام 1967 أو داخل حدود ما يُعرف بـ"الخط الأخضر". وفي ظل هذا التآكل المتسارع لصورة إسرائيل، تتنامى المقارنات بين وضعها الحالي وبين ما واجهته حكومة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا خلال ستينيات القرن الماضي، حين أخذت حملات المقاطعة والاحتجاج تنتشر في العواصم الغربية، مشكّلة ضغطاً أخلاقياً وسياسياً واقتصادياً أدى في نهاية المطاف إلى تفكك النظام العنصري. كما تُستدعى إلى الذهن تجربة الولايات المتحدة إبان حرب فيتنام، حين تحولت الاحتجاجات الطلابية والثقافية إلى حركة اجتماعية جارفة أثّرت في المزاج السياسي الأمريكي ودفعت باتجاه إنهاء الحرب، بعد سنوات من الإنكار الرسمي والتبرير الإعلامي.

بدايةً، فإن المقارنة مع جنوب أفريقيا ليست وليدة اليوم، فقد بدأ استخدامها منذ سنوات في أوساط حقوقية وأكاديمية، لا سيما بعد إصدار تقارير موثقة من منظمات كبرى مثل "هيومن رايتس ووتش" و"بتسيلم" تصف نظام السيطرة الإسرائيلي على الفلسطينيين بكونه يحقق التعريف القانوني للفصل العنصري (الأبارتايد)، وفق معايير القانون الدولي. لكن في السنوات الأخيرة، وبخاصة مع التصعيد الدموي في غزة منذ أكتوبر 2023، لم تعد هذه المقارنة مجرد جدل نخبوي، بل تحولت إلى خطاب سياسي يتبناه برلمانيون، ويدخل في بيانات رسمية، بل ويتجسد في قرارات قانونية مثل قرار محكمة العدل الدولية باعتبار أن هناك "احتمالاً معقولاً" بارتكاب إسرائيل جريمة إبادة جماعية.

وجه الشبه الأبرز مع جنوب أفريقيا يتمثل في اتساع رقعة الحراك الشعبي ضد إسرائيل، بدءاً من الجامعات، مروراً بنقابات العمال، وانتهاءً بمؤسسات ثقافية وأكاديمية تعلن تبنيها حملات المقاطعة أو على الأقل تُجاهر برفضها للانحياز الغربي التقليدي لإسرائيل. المشهد الذي تكرر في ستينيات القرن الماضي ضد بريتوريا يعاد إنتاجه اليوم ضد تل أبيب، وإن بوتيرة أبطأ بسبب تعقيدات المشهد الدولي، وضغوط اللوبيات المؤيدة لإسرائيل في الولايات المتحدة وأوروبا. ومع ذلك، هناك ما يشبه التراكم الأخلاقي، خاصة عند الأجيال الشابة، التي لم تعد ترى إسرائيل كدولة "صغيرة وديمقراطية تحاصرها جغرافيا اعداؤها"، بل كقوة احتلال استعمارية تمارس العنف المفرط وتمنع أي أفق سياسي عادل.

أما المقارنة مع تجربة فيتنام، فهي تتعلق بشكل أساسي بديناميكيات الاحتجاج في العواصم الغربية، لا سيما في الولايات المتحدة. في ستينيات القرن الماضي، بدأت شرارة الغضب ضد الحرب الفيتنامية من حرم الجامعات، وسرعان ما اتسعت لتشمل فنانين ومثقفين وأكاديميين ورجال دين وحتى قدامى المحاربين. وقد تميزت تلك الحركة بأنها لم تكن فقط احتجاجاً ضد حرب بعينها، بل تحولت إلى نقد أوسع للسياسات الإمبريالية الأمريكية، وجعلت من "مناهضة الحرب" موقفاً وجودياً وثقافياً.

اليوم، نشهد ملامح شبيهة في التفاعل الشعبي مع الحرب على غزة، خصوصاً بعد أن باتت مشاهد المجازر والدمار والأطفال بهياكلهم العظمية بسبب سياسة التجويع، تُبث على الهواء على مدار الساعة. الجامعات الأمريكية والكندية تشهد اعتصامات وتظاهرات طال أمدها، وواجهت قمعاً بوليسياً كشف عن هشاشة ادعاءات "حرية التعبير" حين يتعلق الأمر بإسرائيل. كما أن الأصوات المعارضة داخل المجتمع الأمريكي لم تعد محصورة باليسار أو الهامش السياسي، بل بدأت تجد تعبيراتها في وسائل الإعلام الرئيسية وأروقة السياسة، وإن بحذر شديد. ويبدو أن العامل الحاسم في هذه الحالة هو طول أمد الحرب وشدة عنفها، تماماً كما حصل في فيتنام، حين أصبح استمرار النزاع عبئاً سياسياً على صانعي القرار، لا سيما بعد أن باتت تكلفته الأخلاقية والاقتصادية لا تطاق أمام الرأي العام.

لكن، ورغم التشابهات، من المهم الإشارة إلى الفروقات أيضاً. في حالة جنوب أفريقيا، كان هناك إجماع شبه دولي على رفض نظام الأبارتايد، بما في ذلك في مجلس الأمن، بينما لا تزال إسرائيل محمية بفيتو أمريكي تلقائي. أما في فيتنام، فقد انتهت الحرب بانسحاب القوات الأمريكية، أما في الحالة الإسرائيلية، فالمعادلة أعقد بكثير بسبب التداخل بين الدين والقومية والسياسة، والدعم الغربي العميق والمتجذر لإسرائيل كـ"حليف استراتيجي" لا يمكن التفريط به بسهولة. كذلك، فإن غياب قيادة فلسطينية موحدة وفعالة قادرة على الاستفادة من هذا الزخم الدولي يمثل نقطة ضعف مقارنة بحركات التحرر الأخرى.

ومع ذلك، فإن التغيرات الجارية تشير إلى أن إسرائيل لم تعد قادرة على تسويق نفسها كدولة ديمقراطية محاصرة، بل بدأت تُعامل في الوعي الجمعي العالمي كقوة استعمارية عنصرية تمارس الإبادة والتطهير العرقي. وإذا استمر هذا المسار، فإن سيناريوهات العزلة والضغط قد لا تفضي إلى نهاية قريبة للصراع، لكنها ستضعف بلا شك قدرة إسرائيل على التحرك بحرية، وستزيد من كلفة الاحتلال والاستيطان، وقد تسرّع بروز ترتيبات دولية جديدة تعيد طرح القضية الفلسطينية كقضية تحرر وطني، لا كملف إنساني هامشي.

إن العالم الذي أسقط نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، ووقف في وجه الحرب الأمريكية على فيتنام، هو ذاته العالم الذي بدأ اليوم يراجع موقفه من إسرائيل، وإنْ ببطء. فالتحولات الكبرى لا تحصل دفعة واحدة، لكنها تبدأ بخدش في الجدار، ثم تتراكم لتُحدث الانهيار. وفي هذا السياق، تبدو عزلة إسرائيل الدولية، وإن لم تكتمل بعد، كعرض مبكر من أعراض تحوّل أوسع، قد يعيد ترتيب ميزان الأخلاق والسياسة على المسرح الدولي...

 

 

 

Loading...