في معنى مبدأ حل الدولتين دون إنهاء الاحتلال وتفكيك منظومته الاستيطانية

 

في ظل التحركات الدولية المتجددة نحو الاعتراف بدولة فلسطين، وعلى رأسها الإعلان الفرنسي المرتقب في أيلول القادم، يعود إلى الواجهة مجددا مبدأ "حل الدولتين" من خلال انعقاد مؤتمر نيويورك كصيغة يُراد منها تقديم أمل بأفق سياسي في ظل رفض أمريكي واسرائيلي، أو قد تكون في واقع هذه المعطيات محاولة لكسب المزيد من الوقت لإدارة الصراع دون حله بالنسبة لبعض القوى الدولية. إلا أن الحقيقة الجوهرية التي لا يمكن تجاوزها، والتي يجب أن تكون في صلب أي نقاش فلسطيني– دولي جاد، هي أن لا معنى لاستمرار الحديث عن هذا المبدأ، ولا فائدة من ترويجه، في ظل بقاء الاحتلال الاستيطاني الإسرائيلي وتكريسه كأمر واقع، واستمرار ارتكاب الجرائم ضد شعبنا، في سياق تنفيذ رؤية "إسرائيل الكبرى"، بصمت دولي يصل حدّ التواطؤ في بعض الحالات حتى من بعض الذين كانوا قد اعترفوا سابقا بدولة فلسطين.

إن الاعتراف بدولة فلسطين يحمل وزنا سياسيا ودبلوماسيا حقيقيا وهاما، لكن طالما أن الاحتلال بكل ما فيه من محارق الابادة والتطهير العرقي والأحلال الاقصائي وجرائم استيطان وضم وتفتيت جغرافي وتجويع وتهجير لتغير الواقع الديمغرافي، مستمر دون رادع فقد تتحول هذه الاعترافات إلى أدوات رمزية تُستخدم لتهدئة الرأي العام الدولي دون أن تغيّر شيئاً على الأرض من واقع الاحتلال نفسه. وفي بعض الأحيان، قد تُستغل هذه الاعترافات كغطاء لتأجيل أي تحرك دولي جدي وفاعل تجاه فرض العقوبات على إسرائيل أو مساءلتها قانونيا، وهو ما يجعل منها سيفا ذو حدّين في حال عدم تحقيق الجدوى السياسية المطلوبة منها في إنهاء الاحتلال وتجسيد استقلال الدولة الفلسطينية المحتلة كشرط في معادلة حل الدولتين في وقت تحظى اسرائيل بالاعترافات الدولية حتى وبما يخالف القرار الأممي ١٨١ الذي نص على اقامة دولتين عام ١٩٤٧.

مبدأ حل الدولتين في ظل الوقائع الإسرائيلية

عملت إسرائيل، منذ اتفاق أوسلو وحتى اليوم وبعد الانتفاضة الشعبية الكبرى لشعبنا والتي كان يفترض استمرارها لإمكان استثمارها السياسي الأفضل بعدما حققته من واقع فلسطيني امام العالم اجمع، على إفراغ "حل الدولتين" من مضمونه بالكامل. ففي ظل توسّع استيطاني غير مسبوق، فرض لنظام أبارتهايد حقيقي، تمسك بسيادة أمنية كاملة على الأرض والجو وما في باطن الأرض ومياه البحر واستغلال استعماري وسرقة لمقدراتنا واموالنا. فكيف وفق هذا الواقع يمكن التحدث عن "حل الدولتين" بينما غزة تحت الحصار والمحرقة، والضفة تُجتزأ، والقدس تُبتلع؟ وكيف يمكن تطبيق هذا الحل في وقت يتبنى فيه الكنيست الإسرائيلي قوانين الفوقية اليهودية ورفض إقامة الدولة الفلسطينية والتوصية بضم الأراضي، بدعم أمريكي مطلق في وقت يقوم سفير دولتهم تسميتها بيهودا والسامرة واعتبار الاستيطان حق يهودي تاريخي؟

ما يُطرح اليوم من "حل الدولتين" من بعض العواصم الغربية التي تتحمل مسؤولية الظلم التاريخي الواقع على شعبنا منذ ما قبل جريمة النكبة، على أهميته السياسية، الا انه قد يمكن اعتباره غطاء لفظي يُخفي فشل النظام الدولي في فرض إرادته في رفع ذلك الظلم الاستعماري، وتحديدا فشل الدول وحتى التي اعترفت بدولة فلسطين سابقا، وانجرار البعض الاخر الى اتفاقيات التطبيع في إلزام إسرائيل بتطبيق القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية. بل إن هذا الطرح قد يمنح الاحتلال وقتا إضافيا لمواصلة استراتيجيته الاستعمارية الهادئة والمتوحشة في آن واحد، على حساب الأرض والحق الفلسطيني، إذا لم يتم استثماره من طرفنا وفق ما هو مطلوب لخدمة قضيتنا التحررية.

الاعتراف الفرنسي والبريطاني المرتقب ، فرصة رمزية أم امتصاص للغضب الشعبي؟

 قد يُنظر إلى الاعتراف الفرنسي المرتقب بدولة فلسطين وما تبعها أمس من تصريحات بريطانية في نفس السياق، كمكسب دبلوماسي سياسي، خصوصا إذا ترافق مع موجة دعم أوروبي متزايدة وإجراءات واضحة بحق اسرائيل. الا انه من المهم فهم السياق السياسي الذي جاء فيه، فقد جاء إعلان الرئيس إيمانويل ماكرون في ظل تصاعد ملحوظ في موجات التضامن الشعبي داخل فرنسا مع شعبنا، واحتجاجات مستمرة قادتها قوى اليسار والنقابات والجامعات، رفضا لمجازر غزة والجرائم بحق المخيمات بالضفة. كما جاء التوجه البريطاني ايضا نتيجة لنفس الأمر ، ولاحقا لتطورات حزبية داخلية قادها المعارض جيمي كوبرين في تأسيس حزب جديد بدأ يتسع بشكل متسارع ما يهدد استمرار سلطة الحزب الحاكم وتحديدا "العمال" و"المحافظين" في بريطانيا ، كما وفي وسط خلافات سياسية مستجدة بين باريس ولندن وواشنطن في محاولة لفرض موقف أوروبي مستقل عن الإدارة الامريكية ، الأمر الذي أثار حفيظة الإدارة الأمريكية التي علّقت بوضوح أن ذلك "لا يعني شيئا" أي الاعتراف ، وفرضت خلال هذا الأسبوع على أوروبا شروطا اقتصادية صعبة بالمقابل في محاولة لاستمرار اخضاعها السياسي والاقتصادي .

هذه الاعترافات، رغم أهميتها السياسية والرمزية، يمكن ان تُستخدم أيضا كوسيلة لامتصاص النقمة الداخلية الفرنسية والبريطانية الشعبية المتزايدة من اجل محاولة الحفاظ على بقاء الاحزاب الحاكمة فيها بالسلطة، ومحاولة لإرضاء الشارع المنتفض بعد أن شاهد العالم كله جرائم إسرائيل في بث حي ومباشر. وبالتالي، علينا كفلسطينيين ان نفهمها في إطار واقعها السياسي وألا نبني قصور أوهام على مثل هذه الخطوات، ولا نُراكم على الاعترافات أكثر مما تحتمل الا بشكل سياسي واقعي، في ظل غياب الإرادة الدولية الفعلية لإنهاء الاحتلال وتفكيك منظومته الاستعمارية حتى اليوم.

لقد مر ما يقارب من الأربع عقود على إعلان الاستقلال الفلسطيني عام ١٩٨٨، الذي تلاه أكثر من ١٤٠ اعترافا بدولة فلسطين حتى اليوم، وتحقيق مكانة دولة غير عضو مراقب في الأمم المتحدة عام ٢٠١٢، دون أن يتحول هذا التراكم إلى نتائج ملموسة على الأرض في وجه سياسات اسرائيل وإنهاء الاحتلال، إلا في بعض المكاسب الرمزية أو المؤسسية، في ظل نظام دولي تهيمن عليه الولايات المتحدة ويمنع تنفيذ قرارات الأمم المتحدة، بل ويتيح لإسرائيل الحماية من جهة اخرى.

 الاعتراف كأداة ضغط ، أم تهدئة سياسية

إن الاعتراف بدولة فلسطين لا يجب أن يُستخدم كأداة تهدئة في العواصم الغربية بل كرافعة سياسية وقانونية للضغط من أجل إنهاء الاحتلال وتفكيك منظومته الاستعمارية. وهذا يتطلب منا أن نُعيد صياغة علاقتنا الرسمية مع هذه الاعترافات، بحيث تتحول من مجرد قبول تلقائي لها إلى فعل سياسي مرتبط باتفاقيات ثنائية تتعلق بالموقف من إسرائيل.

وفي هذا السياق، يصبح من الضروري توجيه رسائل فلسطينية دبلوماسية واضحة للدول الراغبة بالاعتراف بدولة فلسطين او حتى التي اعترفت سابقا، يتم التأكيد فيها على المواقف الدولية والمعاهدات التي وقعت عليها حتى تلك الدول والتي تفيد بأن الاعتراف لا يُعتبر دعما حقيقيا ما لم يُقترن بـ:

1. مواقف ملموسة في المحافل الدولية تدعم المساءلة القانونية لإسرائيل.

2. دعم فرض عقوبات اقتصادية وسياسية على دولة الاحتلال ومنظومتها الاستيطانية.

3. اتخاذ إجراءات فعلية ضد الشركات المتورطة في دعم الاستيطان وجرائم الحرب.

4. توقيع مذكرات تفاهم سياسية تؤطر الاعتراف كجزء من التزام شامل بإنهاء الاحتلال، لا بديلاً عن ذلك.

الاعتراف إذا، يجب أن يتحول من مجرد إعلان سياسي رمزي هام إلى مدخل عملي لوقف جريمة المحرقة والإبادة المستمرة والتجوع في غزة فوراً، ولمسار تفكيك الاحتلال الاستيطاني وتنفيذ حق تقرير المصير والعدالة لشعبنا.

ما بعد الانتظار ، نحو استراتيجية وطنية جديدة

فشل المجتمع الدولي في وقف الاستيطان وفرض تطبيق حل الدولتين، يدفعنا كفلسطينيين إلى إعادة صياغة استراتيجيتنا الوطنية التحررية. فلم يعد ممكنا المراهنة على المسار التفاوضي الغائب أصلاً والذي ترفضها اسرائيل، ولا على دور "الضامن الدولي"، ولا على وعود أمريكية أثبتت انحيازها المطلق، ليصبح المطلوب اليوم منا:

1. اعتماد استراتيجية تحرر وطني واقعية ، تستند إلى برنامج نضالي شامل من خلال موقف وطني عريض تمثله منظمة التحرير بصفتها جبهة وطنية عريضة ، وبصفة مكانتها المكتسبة التمثيلية والقانونية والدولية وممثل وحيد لشعبنا وفق ترابها الكفاحي في قيادة مرحلة التحرر الوطني ، من خلال الشروع الفوري باستنهاض وإعادة بناء مؤسساتها وتوسيع تمثيلها من خلال انتخابات ديمقراطية شاملة يسبقها حوار وطني واسع يُعقد بشكل سريع وفق قرارات المجلس المركزي للمنظمة في دوراته السابقة ، يتبعه تشكيل حكومة انقاذ وتحرر وطني تساهم فعليا في رفع الأعباء عن شعبنا وفي اعتماد سياسات تعزز الصمود المقاوم ضمن رؤية استراتيجية واضحة المعالم لا تعتمد فقط ردود الافعال والوعود دون تخطيط والتقرب من القاعدة الشعبية .

2. إعادة تعريف الدولة الفلسطينية كدولة مقاومة لها المكانة القانونية دوليا وواقعة تحت الاحتلال ، لا كيانا وظيفيا محكوما باتفاقات لم ولن تلتزم بها إسرائيل في اطار رؤيتها لتقويض اي افكار حول مسار تفاوضي لسلام شامل او حتى استقرار من خلال سياساتها على الأرض لتنفيذ مشروع أسرائي الكبرى في اطار المحاولات الأمريكية الجارية بتسارع لتقويض مكانة الدولة الوطنية وتدجين الانظمة لبناء الشرق أوسط الجديد في غياب استراتيجية عربية موحدة تعبر عن مصالح شعوبنا ، وعدم وجود معارضة اسرائيلية تدعوا الى إنهاء الاحتلال والعدوان على الاقل كمصلحة اسرائيلية رغم أزمات المجتمع اليهودي بإسرائيل وتنامي الفاشية بحق المواطنين الفلسطينيين الإسباني فيها ومن يساندهم من يعود تقدمين معادين الصهيونية ، وهم قلة يتوجب العمل وتوسيع قاعدة الشراكة معهم وفق ما تقوم به القوى الفلسطينية بالداخل الممثلة بلجنة المتابعة .

3. تفعيل أدوات النضال : تصعيد المقاومة الشعبية فعلاُ لا قولاً ، وتوسيع الفعل المبادر الدبلوماسي والقانوني المقاوم بعيداً عن الاستجداء كضعفاء على ابواب العواصم ، وتكثيف العمل مع حركات التضامن الدولي التي باتت تشكّل فعالياتها ضغطا فعليا في شوارع مدن العالم وعلى حكوماتها ، من خلال التظاهر اليومي وبالمرافعات القانونية ، وفي حملات المقاطعة والتصدي للوفود الاسرائيلية ، وهي الوحيدة التي باتت تعبر عن الموقف المطلوب تجاه أسرائي اليوم ، في وقت تدفع هي الثمن بمقابل ما تتعرض له من قمع سلطات بلادها والاتهامات الموجهة لها من الحركة الصهيونية العالمية بمعاداة السامية ، الأمر الذي يستوجب العمل معها ودعهما بشكل مباشر دون تردد ودون خوف مما قد نعتقد انه يؤثر على علاقتنا الرسمية بحكومات تلك الدول . الا ان هذا الطريق هو الأصح لتغير مواقف تلك الدول من خلال هذا الضغط واستغلال ورقة الانتخابات عندهم ونزع مخاوفهم من عقدة الذنب تجاه اليهود ومن الاتهامات التي تلاحقهم بها قوى المال والنفوذ لدى الحركة الصهيونية والفاشية الجديدة في أوروبا التي تقف في مساندة مفهوم الاستعمار واضطهاد الشعوب.

 إعلان الدولة تحت الاحتلال ، ضرورة لا خيار

 الاعتراف بدولة فلسطين لا يجب أن يكون "نهاية الحديث"، بل بداية اشتباك سياسي وقانوني مع الاحتلال. يجب أن نمنح الاعترافات الدولية معناها الحقيقي، لا تجميل الاستعمار، بل إعلان مقاومة ضده.

ولذلك فإن أي اعتراف جديد بدولة فلسطين يجب أن يكون بداية لذلك المسار لا نهاية له. ولا يجوز أن يُختزل في تغريدة رسمية أو بيان رمزي. ومن هنا ، فإن إعلان دولة فلسطين تحت الاحتلال وتشكيل مجلسها التأسيسي بات ضرورة استراتيجية ملحة ، تُعيد الاعترافات الدولية إلى معناها الحقيقي والمتمثل في إعلان مقاومة سياسية وقانونية مشتركة في وجه الاحتلال تقوم على الوفاء لقيم ومبادئ الانسانية وعلى نصوص الانظمة الأساسية لدول العالم المتعلقة بالحرية والعدالة والتي تمثلت بمبادئ الثورة الفرنسية وإعلان نشؤ الاتحاد الأوروبي وغيرها من دساتير الدول وانظمتها وتضحيات الشعوب الأوروبية من اجل الانتصار على الوحش النازي واسقاط الديكتاتوريات العسكرية لاحقا ، لا تكيفا وتعايشاً مع الاحتلال كأمر واقع .

بهذا المعنى، نستعيد زمام المبادرة، لا لنرفض الاعترافات، بل لنمنحها معناها الحقيقي، كرافعة هامة نحو الحرية والاستقلال الوطني لدولة فلسطين الواقعة تحت الاحتلال، لا كغطاء لتجميل الاستعمار أو لفرض اشتراطات علينا لا تتفق مع حقوق شعبنا الوطنية السياسية أو إملاءات “دعوات" كما جاء اليوم في بيان عدد من الدول الأوروبية.

 

 

 

كلمات مفتاحية::
Loading...