سقوط سردية إسرائيل الدولة "الضحية"

مظاهرة ليهود أمريكيين ضد الحرب على غزة

 

 

 

منذ تأسيسها عام 1948، عملت إسرائيل على ترويج نفسها كدولة قامت من رماد المحرقة، تستحق تعاطف العالم وتأييده باعتبارها ملاذًا آمناً لليهود الذين نكّل بهم النازيون. هذه السردية – دولة الضحية الأبدية – لم تكن مجرد إطار أخلاقي، بل كانت أداة سياسية فعالة لتبرير سياساتها، وتحييد النقد الدولي، والحصول على امتيازات لا تتمتع بها أي دولة أخرى في العالم، مهما كانت ممارساتها.

لكن هذه السردية بدأت بالتآكل ببطء منذ عقود، وسقطت بشكل مدوٍ خلال الحرب المستمرة على غزة، التي كشفت الوجه الحقيقي لدولة طالما اختبأت خلف مظلومية الهولوكوست. الصور القادمة من القطاع – لمدن سويت بالأرض، لمخيمات لاجئين تحولت إلى مقابر جماعية، لأطفال مكدسين تحت الأنقاض وآخرين تبرز هياكلهم العظمية نتيجة لاستعمال اسرائيل الجوع كسلاح، ولمستشفيات مدمرة فوق مرضاها – أسقطت قناع "الدولة الأخلاقية" الذي ارتدته إسرائيل لعقود. لم تعد المقاومة في الماضي والحاضر تفسر كخطر وجودي على "الدولة اليهودية"، بل كصرخة في وجه استعمار دام أكثر من سبعين عامًا.

وفي الضفة الغربية، تتسارع وتيرة التوسع الاستيطاني والتهجير القسري في مخيمات شمال الضفة وتجمعات بدوية في جنوب الخليل وأخرى في مناطق الأغوار، ويُمارَس نظام فصل عنصري واضح بين اليهود والفلسطينيين، من حيث حرية التنقل، والحقوق القانونية، والحماية الأمنية. أما في مناطق الـ 48، حيث يُفترض أن الفلسطينيين "مواطنون" في إسرائيل، فهُم يُعامَلون كمواطنين من الدرجة الرابعة، تُنتهك حقوقهم يوميًا تحت غطاء القانون أو بدونه.

هذه السياسات لا تُشير إلى دولة خائفة، بل إلى كيان استعماري استعلائي، يوظف ذاكرة الإبادة ليبرر إبادة شعب آخر، وينزع عنه إنسانيته. وهنا تكمن المفارقة التاريخية الأخلاقية الكبرى: إسرائيل، التي طالما قدّمت نفسها كضحية للنازية، تتبنى اليوم منطق التفوق العرقي، والتطهير، والعقاب الجماعي، والحصار والتجويع ضد الفلسطينيين.

لم يعد الحديث عن "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها" مقنعًا لكثيرين حول العالم. الرأي العام العالمي، خصوصًا في أوساط الشباب، بدأ يرى ما يحدث على حقيقته: قوة نووية مدعومة من الغرب، تفتك بشعب محاصر أعزل. التظاهرات المليونية في العواصم الغربية، حركات المقاطعة الأكاديمية والثقافية، والاحتجاجات داخل الجامعات، كلها مؤشرات على أن احتكار إسرائيل لدور "الضحية" لم يعد مقبولاً.

الكثير من المثقفين اليهود، والناشطين، والطلاب، وحتى الحاخامات خارج إسرائيل، باتوا يعبرون عن مواقف علنية ترفض الاحتلال والاستيطان والعنف ضد المدنيين الفلسطينيين، ويرفضون أن تُوظف معاناتهم التاريخية لتبرير جرائم تُرتكب باسمهم. هذا الموقف لا ينبع من عدائهم لإسرائيل ككيان، وإنما من رفض أخلاقي وسياسي لاستغلال سردية "الدولة الضحية" لتبرير سياسات أصبحت محل إدانة دولية متزايدة. فإسرائيل، كما يقول هؤلاء اليهود، لا يمكن أن تظل تختبئ وراء ستار الهولوكوست وهي تمارس الفصل العنصري في الضفة الغربية وتقتل الأطفال في غزة وتحاصر شعباً بأكمله.

هذا الرفض اليهودي المتنامي، والذي يصل أحياناً إلى حد القطيعة مع الصهيونية نفسها، يُعتبر ضربة قاصمة للسردية الإسرائيلية التي ظلت لعقود تقايض العالم على تعاطفه مع اليهود عبر بوابة المحرقة. إذ كيف يمكن لإسرائيل أن تطلب من العالم تأييدها على أنها الضحية، في حين أنها أصبحت، في نظر كثيرين، تمارس أفعالاً تجعلها في موقع الجلاد؟ لقد أسقط اليهود أنفسهم، في موقفهم النقدي هذا، إحدى الركائز الأساسية التي اعتمدت عليها إسرائيل لضمان الدعم الغربي، وبهذا أصبح السقوط الأخلاقي والسياسي لسردية "الدولة الضحية" أمراً لا مفر منه.

ولعل أخطر ما يواجه إسرائيل اليوم ليس فقط تآكل الدعم الشعبي لها في الغرب، بل فقدانها لحق الاستثناء من المساءلة. فثمة دعوات متصاعدة لمحاكمة قادتها كمجرمي حرب، ومذكرات توقيف دولية تلوح في الأفق، وتحديات قانونية تطال شرعية الاحتلال والاستيطان ونظام الابرتهايد. إنها لحظة انكشاف تاريخي، سقطت فيها الهالة الأخلاقية، وانهار معها جدار الحصانة الدولية الذي تمتعت به إسرائيل لعقود. لقد باتت إسرائيل تشبه، في نظر كثيرين، نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا سابقًا، بل وتشبه جلادي اليهود في الحرب العالمية الثانية، وإن اختلفت الأدوات والسياقات. وهذه ليست مقارنة عاطفية أو دعائية، بل توصيف لواقع عنيف يتجلى في سياسات القتل الجماعي، والتمييز المُمأسس، وإنكار الآخر.

في ظل تزايد النقمة العالمية على السياسات الإسرائيلية، ومع تنامي المقاطعات الأكاديمية والثقافية وتراجع التأييد الشعبي لإسرائيل في عدد من العواصم الغربية، تلوح في الأفق ملامح سيناريو مشابه لما واجهه نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. قد لا يؤدي هذا المسار إلى زوال إسرائيل كدولة، لكنها قد تُجبر على التخلي عن صورتها كـ “ضحية" أبدية، والاعتراف بالحقيقة الجوهرية: أنها تمارس نظامًا استعمارياً استيطانياً يفرض واقعًا عنصرياً على الفلسطينيين. وإذا كانت جنوب أفريقيا قد انتهى بها المطاف إلى تفكيك منظومة الابرتهايد بشكل كامل، فإن الحالة الإسرائيلية قد تؤول إلى تسوية أقل جذرية، لكنها أكثر اضطراراً؛ فمع تصاعد العزلة الدولية وتغير المزاج السياسي العالمي، قد تجد إسرائيل نفسها مضطرة للاعتراف بدولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران، ليس حباً في السلام، بل كتكلفة لتأجيل الانهيار الأخلاقي والسياسي الذي يلاحقها.

لقد خاضت إسرائيل حروبًا كثيرة، لكن حربها على غزة لم تكن مجرد معركة عسكرية، بل معركة على شرعية الرواية، على الحق في ادعاء المظلومية والاحتفاء بالاستثناء. وفي هذه المعركة، يبدو أنها تخسر أمام عدسات الهواتف المحمولة، وأمام ضمائر شعوب العالم، وربما قريبًا أمام قضاة التاريخ..

 

 

 

كلمات مفتاحية::
Loading...