بعد دخول الحرب الإسرائيلية على غزة شهرها الثالث والعشرين، دون تحقيق انتصار حاسم لإسرائيل أو هزيمة حاسمة لحماس، خرج نتنياهو مؤخرا بتهديد جديد يقضي باجتياح كامل لقطاع غزة، بما يشمل مدينة غزة والمخيمات الوسطى، ليشعل النقاش مجددًا حول أهداف الحرب، وحدود القدرة الإسرائيلية، وحسابات الأطراف المختلفة. وهذا التهديد لم يكن الأول، فقد سبقه في تموز/يوليو تهديد بضم أجزاء من القطاع، في محاولة واضحة لتهدئة الشركاء اليمينيين في الائتلاف الحكومي ومنع انهياره. إلا أن التهديد الجديد يحمل طابعًا عسكريًا مباشرًا، ويُطرح في سياق فشل الوساطات الأخيرة للتوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى.
والسؤال هنا: ما الذي يمكن أن يضيفه احتلال كامل للقطاع عسكريًا، بعدما فشلت آلة الحرب الإسرائيلية طوال اكثر من ٢٢ شهرًا من تحقيق أهداف استراتيجية واضحة؟ الإجابة ليست سهلة، لكنها تقود إلى خلاصة مفادها أن الاجتياح الشامل قد يكون مخاطرة أكبر من أي مكسب محتمل. لقد جربت إسرائيل معظم عناصرالقوة التي بحوزتها: آلاف الطلعات الجوية، عمليات برية في الشمال والجنوب والوسط، اغتيالات مركّزة، تفكيك بنى تحتية، تدمير أحياء كاملة، وحصار خانق، وتجويع، لكنها لم تحصد النصر، بل حصدت المزيد من الانكشاف السياسي والعسكري. الاحتلال الكامل، إن نُفذ، يعني حرب شوارع في قطاع مليء بالأنفاق، والمفاجآت غير المحسوبة. كما يعني المزيد من الجنود الذين سيعودون الى بيوتهم بالتوابيت، هذا بالإضافة الى عبء إدارة مليوني إنسان في وضع كارثي إنسانيًا، وسؤال دائم: إلى متى وكيف ستخرج إسرائيل من مستنقع غزة؟
في المقابل، فإن حماس التي تكبدت خسائر جسيمة، تجد نفسها أمام تحدٍ جديد: هل تتعامل تكتيكيًا مع التهديد لتفادي اجتياح كارثي على المدنيين والبنية التحتية المتبقية؟ أم تواصل التمسك بمطالبها الأساسية التي ترى فيها جوهر معركتها، وهي وقف الحرب الكامل، وانسحاب القوات الإسرائيلية من القطاع، وضمانات بعدم العودة؟ المؤشرات حتى الآن تفيد أن الحركة ليست في وارد تقديم تنازلات جوهرية، لأنها تعتقد أن صمودها السياسي والعسكري طوال هذه المدة منحها مكانة تفاوضية لا يجوز التفريط بها. وهي تراهن على أن نتنياهو لن يذهب إلى النهاية، لأسباب داخلية وخارجية. غير أنه تحت وطأة معاناة الناس في القطاع، فإنها قد لا يكون موقفها الرفض المطلق ولا القبول الصريح بمقترح جديد لوقف أطلاق النار قد يتقدم به الوسطاء، للخروج من حالة الجمود والتوتر الحالية.
في المقابل، فإن قدرة الجيش الإسرائيلي نفسه على تنفيذ التهديد تبقى موضع شك كبير، سواء في الأوساط العسكرية أو السياسية. الجيش أنهك بفعل العمليات الطويلة، والتجند المستمر، والاستنزاف في الأرواح والمعنويات. مئات الجنود وقعوا بين قتيل وجريج، ومعدلات تسرب من الخدمة الاحتياطية تتزايد، وأهالي الأسرى في غزة يضغطون بالتظاهر بالشوارع وعبر وسائل الإعلام. كما أن التجنيد المتكرر أحدث أزمة في سوق العمل والاقتصاد الإسرائيلي. هذه الحقائق ليست أسرارًا، بل تُنشر بوضوح في الصحافة العبرية والتقارير العسكرية. ومن هنا، فإن اجتياحًا كاملاً سيحتاج إلى موارد بشرية وميدانية لا تبدو متوفرة أو ممكنة من دون قرارات استثنائية، مثل فرض الخدمة الإلزامية بشكل أوسع، أو تعبئة عامة، وهو ما قد يُفجّر الوضع الداخلي.
ولعل عملية "عربات جدعون"، التي نفذها الجيش الإسرائيلي في مايو 2025 لاختراق وسط قطاع غزة والسيطرة على مناطق في مخيم النصيرات والبريج، تمثل أحد أبرز الشواهد على محدودية القدرة الإسرائيلية في تحقيق أهدافها البرية. فالعملية التي رُوّج لها باعتبارها خطوة حاسمة لتفكيك ما تبقى من كتائب القسام في وسط القطاع، خسرت فيه القوات الإسرائيلية عددًا من الجنود بين قتيل وجريح في كمائن متعددة، فيما أُجبرت على الانسحاب بعد أيام من المواجهات العنيفة داخل بيئة حضرية معقدة، دون أن تحقق أي من أهدافها المعلنة. وتكررت في هذه العملية نفس مظاهر الإرباك العسكري التي شهدتها العمليات السابقة في خانيونس وحي الشجاعية. هذا الفشل الميداني عزز موقف المعارضين داخل المؤسسة العسكرية لخيار الاجتياح الكامل، باعتباره تكرارًا لنمط عمليات مكلفة وغير حاسمة. فعملية "عربات جدعون" لم تكن مجرد معركة خاسرة، بل مؤشرًا على حجم التحديات التي قد يواجهها أي توغل شامل في قلب القطاع.
وفي هذا السياق، لا يمكن تجاهل موقف رئيس الأركان الإسرائيلي إيال زامير، الذي عبّر بوضوح عن معارضته للاجتياح الكامل، واعتبره خطأ استراتيجيًا. زامير، بحسب تسريبات نقلتها وسائل إعلامإسرائيلية، رفض دعوة نتنياهو لاجتياح مدينة غزة والمخيمات الوسطى، ورأى أن ذلك سيؤدي إلى تورط طويل المدى، وخسائر كبيرة، دون مكاسب حقيقية على المدى القصير. وكانت القناة 14 الموالية لنتنياهو نقلت عن مصدر سياسي (مكتب نتنياهو) قوله إن زامير يجب أن "يستقيل إن لم يلتزم بقرار الحكومة"، في إشارة إلى توتر متصاعد بين المستويين السياسي والعسكري. لكن زامير، بقرائته للوضع الميداني، يدرك أن الجيش ليس جاهزًا لمثل هذه المغامرة، ولا يملك خارطة طريق للخروج منها، ولا حتى غطاءً سياسيًا داخليًا متماسكًا.
الخلاف بين المؤسستين السياسية والعسكرية في إسرائيل بشأن الحرب على غزة بات واضحًا. الجيش يريد أهدافًا قابلة للتحقيق، وبرامج زمنية محددة، واستراتيجية خروج، في حين يريد نتنياهو إطالة أمد الحرب لغايات سياسية وشخصية، منها الحفاظ على تماسك ائتلافه المتطرف، ومنع الانتخابات، ودفن التحقيقات القضائية التي تهدد مستقبله. هذه المصلحة الذاتية لنتنياهو تتصادم مع منطق المؤسسة العسكرية، التي تخشى فقدان الثقة من المجتمع، وغياب الجدوى من الاستمرار في مسار بلا أفق.
في ضوء كل ما سبق، يمكن رسم ثلاثة سيناريوهات محتملة: أولها أن يكون التهديد بالاجتياح الكامل مجرد تكتيك ضغط على حماس للقبول بالصيغة الأخيرة لاتفاق وقف إطلاق النار، والتي تتضمن تسلسلاً زمنياً ومرحلياً لإطلاق الأسرى وعودة النازحين، دون وقف كامل للحرب أو انسحاب فوري للقوات، وهذا ما ترفضه الحركة. السيناريو الثاني أن يقرر نتنياهو بالفعل التوجه نحو الاجتياح، بدعم من شركائه اليمينيين مثل بن غفير وسموتريتش، ما قد يؤدي إلى صدام علني مع قيادة الجيش، واستقالات محتملة، وربما دخول المحكمة العليا على الخط. أما السيناريو الثالث، وهو الأكثر ترجيحًا في المدى القريب، أن تستمر الحرب بنمطها الحالي، دون اجتياح شامل، لكن مع عمليات موضعية أشد كثافة، وتصعيد الضغط الإنساني والعسكري، إلى حين حدوث تغير سياسي داخلي أو خارجي.
في المحصلة النهائية، فإن التهديد باجتياح كامل للقطاع لا يبدو منفصلًا عن اعتبارات الضغط والمساومة، لكنه في ذات الوقت يعبّر عن مأزق حقيقي تعيشه إسرائيل: فالحرب التي بدأتها قبل أكثر من 670 يومًا لم تحقق لها أمنًا ولا نصرًا، بل أظهرت حدود القوة، ومخاطر التورط. وبين هواجس نتنياهو ومخاوف المؤسسة العسكرية، يظل الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، هو من يدفع الثمن الأكبر.