جاءتني في الأيام الماضية بعض الأسئلة من أصدقاء وقرّاء لمقالي الأخير الذي نشر بعنوان "إلى أين يتجه المشروع الوطني الفلسطيني في مواجهة الاحتلال والمخططات "الاستيطانية الإحلالية؟ وتحديداً ما إذا كان هناك تعارض بين الدعوة إلى إعلان دولة فلسطين بموجب إعلان وثيقة الاستقلال كدولة تحت الاحتلال، وبين الدعوة لتفكيك المشروع الاستيطاني الاستعماري الصهيوني الغربي على أرض فلسطين.
حيث لا أرى في الأمر أي تناقض، بل تكامل في المسار الوطني التحرري والسياسي. فالوطن لنا هو فلسطين التاريخية بحدودها الانتدابية بأكملها، وهذا حق ثابت لا يسقط بالتقادم ولا بالتسويات السياسية المؤقتة التي لا تحمل حلاً تاريخيا عادلاً لأصحاب الأرض الأصلانيين يقوم اساسا على مبدأ حق تقرير المصير على ترابهم الوطني. لكن في الوقت ذاته، وفي إطار الصراع السياسي بل الوجودي القائم، فإن شكل الحل الممكن والمرحلي الذي يُطرح على المستوى الدولي والإقليمي هو إقامة دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة على حدود ما قبل الرابع من حزيران 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، مع ضمان حق اللاجئين بالعودة والتعويض وفق قرارات الشرعية الدولية وتحديدا منها القرار 194 الأممي.
إن بقاء المشروع الوطني التحرري الفلسطيني بصيغة الحق التاريخي في فلسطين، والحل السياسي الممكن بدولة مستقلة وفق حدود ما قبل الرابع من حزيران 67، هو النقيض المباشر للمشروع الاستيطاني الاستعماري الصهيوني. فالاحتلال الإسرائيلي يسعى جاهداً عبر جرائمه وسياساته في غزة من خلال التطهير العرقي والتجويع والإبادة والتهجير، وفي الضفة الغربية بما فيها القدس عبر توسيع الاستيطان والضم والتهويد وإعلان السيادة، وإلى التمييز العنصري والاضطهاد القومي لأبناء شعبنا بالداخل إلى طيّ وتصفية القضية الوطنية التحررية الفلسطينية، وإلغاء أي إمكانية لقيام دولة فلسطينية مستقلة. هذا ما يسمى عملياً بـمحاولة تنفيذ مخطط "إسرائيل الكبرى"، أي مشروع السيطرة الاستعمارية الكاملة على فلسطين ضمن مخطط "الشرق الأوسط الجديد" بل وتمددها الى خارج حدود فلسطين لتشمل أراضي من دول مجاورة حتى قبرص منها.
من هنا، فإن المعركة ليست حول غزة فقط وليست حول استئصال حركة حماس، رغم فداحة الجريمة الإنسانية هناك، وليست حول الضفة الغربية وحصار وتقويض دور السلطة الوطنية. وخطورة سياسات الضمّ الجارية فيها واقتراب اعلان السيادة الإسرائيلية عليها بضوء أخضر من الإدارة الامريكية وفق الضم العملي المتدحرج منذ سنوات، بل هي معركة على المشروع الوطني التحرري الفلسطيني ذاته. فهل يبقى ويستمر كخيار نقيض للمشروع الاستعماري، أم يُطوى ويُفرض علينا الاستسلام لمعادلة "الأمر الواقع" التي تريدها إسرائيل والولايات المتحدة وحلفاؤهم وأعوانهم بالمنطقة.
إذاً، فإن إعلان "دولة فلسطين تحت الاحتلال" ليس تراجعاً عن الحقوق ولا نهاية المطاف ولا بديلاً عن ضرورة تفكيك المشروع الكولنيالي الإحلالي، بل هو خطوة سياسية لتجسيد الهوية الوطنية والاعتراف بحقوقنا السياسية بالاستفادة من تعاظم التضامن الشعبي الدولي وتزايد حلقات الاعتراف بدولة فلسطين حتى بما تحمله من رمزية سياسية والتي تحتاج إلى آليات واضحة لفرض العقوبات من أجل لإنهاء الاحتلال وصولاً إلى تجسيد الدولة المستقلة، وفي ذات الوقت فهو أداة لتعزيز صمودنا في مواجهة مشروع "إسرائيل الكبرى". فالخياران ليس متناقضين، بل يكملان بعضهما البعض، مشروعنا الوطني المتجسد بالفكر الفلسطيني هو ما يشكل النقيض الجوهري لمشروعهم الاستعماري منذ جريمة وعد بلفور.
أن إسقاط المشروع الاستيطاني الصهيوني يتجاوز حدود المصلحة الفلسطينية وحدها، إذ يندرج في إطار تنامي الرأي العام العالمي الذي بات يفضح هذا المشروع أمام شعوب العالم، ويكشف خطورته ليس فقط على شعبنا الفلسطيني، بل حتى على اليهود أنفسهم الذين استغلتهم عنصرية فكرة الحركة الصهيونية العالمية بتحالفها مع الاستعمار الغربي وحتى مع النازيين منذ القرن الماضي وحتى اليوم. ويكتسب هذا الانكشاف الدولي أهمية كبرى، إذ يزيد عزلة إسرائيل على الصعيد الدولي، ويمنح السردية التاريخية الفلسطينية بعداً أخلاقياً وحقوقياً وسياسياً عالمياً.
ومن هنا تبرز مسؤولية جميع الشعوب والقوى الديمقراطية التقدمية الحقيقية حول العالم، بما فيها اليهود المعارضون للصهيونية داخل إسرائيل على أقليتهم وخارجها مع تناميهم، في المساهمة السياسية والأخلاقية والقانونية لإسقاط المشروع الاستعماري الصهيوني. إن دعم هذه القوى وتعزيز دورها في فضح المشروع الصهيوني وتحجيمه يمثل مشروعاً تحررياً تقدمياً للإنسانية جمعاء، يجمع بين الدفاع عن الحقوق الوطنية الفلسطينية، وبين تعزيز قيم العدالة والمساواة والحرية على نطاق عالمي.
إننا نعي أن مسار التحرر الوطني طويل ومعقد، لكنه ليس مستحيلاً. الجمع بين التمسك بحقوقنا الوطنية المشروعة غير القابلة للتصرف، وبين خوض المعركة الاستراتيجية لإسقاط المشروع الاستعماري بمشاركة القوى الديمقراطية العالمية، هو الطريق الوحيد نحو فلسطين حرة وديمقراطية، لشعبها وأجيالها القادمة، وهو ما يمثل أيضاً نموذجاً عالمياً لتحرر شعوب المنطقة من كل أشكال الاحتلال والكولنيالية والعنصرية والفوقية.
إن الحركة الصهيونية ومنذ نشؤ مشروعهم في فلسطين لم تلتفت إلى أي من القرارات الأممية، بل وانتهكتها باستمرار، ولم تحترم أي من الاتفاقيات التي وقعتها حكوماتها المتعاقبة، بل واغتالت رئيس وزراء دولتهم لتوقيعه اتفاق أوسلو، ولم تكيل اعتبار لأي من الرعايات أو الضمانات الدولية المفترضة لها. وبالتالي فإن مسلسل الجرائم من التطهير العرقي والتجويع يجري بانتهاك واسع لكل المواثيق الدولية وحتى تلك التي كانت إسرائيل قد وقعت عليها.
فما الذي سيمنع دولة الاحتلال الاستعماري اليوم في ظل الشراكة الكاملة بالجريمة والمواقف السياسية تجاه كل قضايا شعوب العالم مع الولايات المتحدة، من أن تمتنع عن إعلان تنفيذ سياسة الضم والإلحاق وفرض السيادة، فالأمر قائم بالأصل منذ سنوات وبشكل عملي متدحرج دون أن يمنعه أحد، حتى منذ نشأتها على حساب حقوق شعبنا ووجوده بانتهاك القرار الأممي 181 حول الحدود. المفترضة دون حساب ، ولهذا فإنها تستمر طالما غاب العقاب كدولة مارقة فوق القانون الدولي مع فقدان بريق ادعاءاتها حول الديمقراطية الوحيدة بالشرق الأوسط، وشماعات "معاداة السامية" و"ضحية التاريخ "، أمام العالم حتى بأوساط الرأي العام بالولايات المتحدة وأوساط حزبية أمريكية من التقدميين الذين باتوا يتهمونها بارتكاب الإبادة الجماعية، وتوقفهم اليوم عن اعتبارها "بقرة مقدسة"، ما يفتح المجال أمام تغيرات قادمة ترتبط لمجريات المتغيرات الدولية، التي نحن سنكون بانتظار تداعياتها، على أن نتحمل مسؤولياتنا وواجباتنا الوطنية الكاملة في وحدتنا وإرادتنا السياسية المستقلة ومقاومتنا الشعبية المتكاملة والسياسية والدبلوماسية والقانونية من أجل حماية مشروعنا التحرري الوطني.