حين نتأمل التجارب التاريخية للدول والإمبراطوريات، يتبدّى لنا أن القوة العسكرية لم تكن يومًا الضامن النهائي للبقاء. كثير من الكيانات التي بلغت ذروة القوة والاتساع، الا أنها انهارت في لحظة ما ليس لأن أعداءها الخارجيين تمكنوا منها، بل لأن بنيتها الداخلية لم تعد قادرة على تحمّل تناقضاتها. هذه الحقيقة تفتح لنا زاوية عميقة لفهم مستقبل إسرائيل: فالمصير الذي ينتظرها لن يُكتب على جبهات القتال بقدر ما سيُصاغ في أحشائها، حيث تتفاعل عوامل الانقسام والتمييز والارهاق البنيوي، فتجعل من كيانها ـ مهما بدا متينًا ـ جسدًا قابلاً للتفكك الذاتي.
إن إسرائيل، من منظور القوة الصلبة، هي واحدة من أكثر الدول عسكرة في العالم. تمتلك أحدث منظومات السلاح وأكثرها فتكًا، وتملك، وإن لم تعلن رسميًا، ترسانة نووية تجعلها رادعًا إقليميًا لا يُستهان به. هي، بعبارة أخرى، قلعة عسكريه في قلب منطقة مشتعلة. وإلى جانب ذلك، فهي محاطة بدعم غربي غير محدود، ليس فقط بوصفها "حليفًا"، بل بوصفها رأس حربة للمشروع الإمبريالي في أهم مناطق العالم الجيوستراتيجية. لهذا السبب، فإن الرهان على انهيارها بفعل قوة خارجية يبدو أقرب إلى الوهم، طالما أن الغرب يرى في بقائها ضرورة لبقاء هندسته العالمية للهيمنة.
لكن القوة الصلبة لا تصنع مجتمعًا متماسكًا، ولا تخلق هوية جامعة. فالمشروع الصهيوني منذ بداياته ارتكز على فرضية إمكانية صهر اليهود القادمين من شتات الأرض في قومية واحدة. غير أن التجربة العملية أثبتت عجزه عن إنجاز ذلك. فمن روسيا إلى المغرب، ومن بولندا إلى اليمن، جلب المهاجرون اليهود معهم لغاتها وعاداتها وأطباقها وفنونها وذاكراتها التاريخية. وبعد أكثر من سبعة عقود، لم ينجح الكيان في محو هذه الفوارق أو إذابتها في "هوية إسرائيلية صافية". لا يزال المجتمع الإسرائيلي موزعًا على جزر ثقافية واجتماعية متباينة، تتعايش أحيانًا وتتصادم أحيانًا أخرى، لكنها لم تصبح يومًا جسدًا واحدًا متجانسًا.
وما يعمّق الأزمة أكثر أن إسرائيل لم تكتفِ بالتمييز بين اليهود والعرب الذين يشكلون نحو خمس السكان، بل انزلقت إلى ممارسة التمييز داخل "الجسد اليهودي" نفسه. فاليهود الأشكناز، القادمون من الغرب، استحوذوا على مفاصل السلطة والاقتصاد والإعلام، بينما بقي اليهود الشرقيون ـ السفارديم والمزراحيم ـ في مراتب أدنى، يعانون التهميش والإقصاء. هذه الفجوات الطبقية والثقافية ليست مجرد تفاصيل، بل هي شروخ عميقة تتغلغل في نسيج المجتمع، وتنتج شعورًا دائمًا بالغبن واللامساواة.
وإذا أضفنا إلى ذلك الانقسام الحاد بين العلمانيين والمتدينين، بان لنا حجم التصدع البنيوي. فهناك تيار علماني واسع يسعى لعيش حياة "طبيعية" في دولة حديثة، في مواجهة تيارات دينية أصولية ترى أن إسرائيل يجب أن تكون مشروعًا لاهوتيًا محكومًا بالشريعة اليهودية. هذا الصراع حول هوية الدولة ليس تفصيلاً سياسياً عابرًا، بل هو سؤال وجودي يمزق المجتمع من الداخل، خصوصًا مع تزايد قوة الحركات الدينية وتأثيرها في السياسة والتشريع.
وإلى جانب ذلك، يعاني النظام السياسي الإسرائيلي أزمة مستمرة. الانتخابات تتكرر بلا قدرة على إنتاج حكومات مستقرة، والنخب السياسية غارقة في الفساد والتحالفات الانتهازية. هذه المظاهر تعكس أن الكيان السياسي ليس نتاج عقد اجتماعي صلب، بل توازنات هشة سرعان ما تنهار عند أول اهتزاز.
أما من الناحية النفسية ـ الاجتماعية، فإن إسرائيل قد بنت ذاتها على نموذج "الدولة الأسبرطية". كل مواطن فيها يعيش على وقع التعبئة الدائمة: "الأعداء في كل مكان"، "الخطر قائم باستمرار"، و"الحرب حتمية". صحيح أن هذه البنية منحتها تفوقًا عسكريًا، لكنها في الوقت نفسه تستهلك المجتمع وتنهكه. فالحياة في ظل الخوف والرعب لا تُنتج استقرارًا طويل الأمد، بل تُراكم التوترات وتزرع بذور الانفجار الداخلي. السؤال الذي يفرض نفسه هنا: إلى أي مدى يمكن لجماعة بشرية أن تعيش عقودًا طويلة تحت وطأة هذا القلق الوجودي دون إنهيار أعصابها الجمعية؟
إن التاريخ يعلمنا أن الإمبراطوريات لا تسقط دائمًا بفعل أعدائها، بل بفعل ذاتها. الرومان لم يهزموا عسكريًا قبل أن تنهكهم أزماتهم الداخلية. والاتحاد السوفييتي لم يُقضَ عليه بالصواريخ الأمريكية، بل بانفجاره من داخله نتيجة أزماته البنيوية. إسرائيل ليست خارج هذه القاعدة. إنها دولة تبدو قوية من الخارج، لكنها محكومة بانقسامات ثقافية وعرقية ودينية وسياسية واقتصادية تنخرها ببطء.
قد تستمر إسرائيل لعقود أخرى، مدعومة بترسانتها النووية وبالغطاء الغربي. لكنها لا تستطيع أن تعالج الشروخ الداخلية التي تتعمق عامًا بعد عام. إن قوتها الصلبة أشبه بواجهة صلبة تغطي جدارًا مليئًا بالتصدعات. ومع مرور الزمن، ومع تراكم الضغوط، ستصل لحظة تتكسر فيها الواجهة وينهار البناء كله.
لذلك فإن السؤال الحقيقي ليس ما إذا كانت إسرائيل ستتفكك، بل متى وكيف سيتم هذا. فزوالها لن يكون مشهدًا دراميًا لحرب كبرى أو هزيمة ساحقة، بل سيكون نتيجة عملية تراكمية بطيئة، حيث تتفاعل التناقضات الداخلية حتى تبلغ نقطة اللاعودة. وعندها، لن تحتاج قوة خارجية إلى تحطيمها، بل لأنها تحمل في طياتها بذور فنائها ....