يبدو أن الحرب على قطاع غزة، بما خلفته من دمار واسع وانقسام سياسي متجذر، ليست مجرد فصل دموي في الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي، بل قد تكون نقطة تحول في إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية الفلسطينية ذاتها. فمنذ اندلاع الحرب الأخيرة، تتزايد المؤشرات على أن القطاع يتجه أكثر من أي وقت مضى نحو الانفصال الكامل عن الضفة الغربية، لا بوصفه خياراً فلسطينياً، بل نتيجة خشية إسرائيل من أي صيغة تؤدي إلى وحدة سياسية بين غزة والضفة، ولهذا فإنها بنت استراتيجيتها على فكرة “إدارة الانقسام”. حتى المطالبة بعودة السلطة الفلسطينية إلى القطاع لا تعكس نوايا جدية لبناء كيان فلسطيني موحد بل القيام بدور وظيفي امني، ما يعكس رغبة في تفتيت الإمكانية لإقامة دولة مستقلة تجمع الإقليمين. بهذا المعنى، يصبح القطاع مشروعاً أمنياً في المقام الأول، تُفرض عليه ترتيبات دولية وإقليمية تضمن بقاءه تحت السيطرة دون أن يكون جزءاً من مسار وطني فلسطيني جامع.
والمفارقة هنا، أن قوى دولية وإقليمية، بعضها بدافع الخوف من عودة “حماس” إلى السيطرة المطلقة على القطاع وبعضها بدافع الحرص على “تهدئة” طويلة الأمد، أخذت الموقف الإسرائيلي بعين الاعتبار. فالاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، ومعهما أطراف عربية رئيسية، يبدون استعداداً للقبول بمعادلة تُعزل فيها غزة عن الضفة بحجة “إعادة الإعمار” و“الحوكمة الرشيدة”، فيما الهدف الأعمق هو تكريس فصل سياسي–جغرافي يقطع الطريق أمام إمكانية توحيد الإقليمين في دولة واحدة.
على الأرض، تتضح معالم هذا الاتجاه في أكثر من مستوى. فمن الناحية السياسية، هناك ضغوط على السلطة الفلسطينية للعودة إلى غزة بشروط أمنية وإدارية مشددة تجعلها أقرب إلى “إدارة مدنية” تحت الوصاية الإسرائيلية والدولية، لا سلطة سيادية. ومن الناحية الاقتصادية، يجري الحديث عن خطط إعادة إعمارللقطاع، ترتبط بشبكات تمويل ومشاريع إقليمية قد تجعل غزة جزءاً من منظومة اقتصادية مرتبطة بمصر أكثر مما هي مرتبطة بالضفة. أما من الناحية الأمنية، فإن المقترحات التي طُرحت حول نشر قوة متعددة الجنسيات أو إشراف إقليمي مباشر تشير إلى اتجاه نحو صيغة “شبه–دولية” لإدارة القطاع بعيداً عن أي وحدة فلسطينية.
إن ضعف السلطة الفلسطينية داخليًا وخارجيًا يمثل عاملًا أساسيًا في تسهيل جهود إسرائيل الرامية إلى تكريس الفصل بين غزة والضفة الغربية. فالسلطة التي تعاني من أزمات مركبه تجعلها عاجزة عن فرض نفسها كمرجعية وطنية جامعة. هذا الضعف الداخلي ينعكس خارجيًا في تراجع قدرتها على المناورة السياسية، وفقدانها أوراق القوة في مواجهة المخططات الإسرائيلية، الأمر الذي يجعل كثيرًا من القوى الدولية والإقليمية تتعامل معها كجسم إداري هش أكثر من كونها قيادة سياسية تمثل مشروع الدولة الفلسطينية.
ومن هذا المنطلق، يصبح الموقف الإسرائيلي أكثر جذبًا لهذه الأطراف، حتى وإن رددت في العلن شعارات دعم الدولة الفلسطينية. فالواقع العملي يظهر أن المجتمع الدولي بات يتعايش مع فكرة الإبقاء على السلطة في الضفة مقابل فرض ترتيبات خاصة في غزة، باعتبار ذلك صيغة "عملية" لضمان الاستقرار المؤقت، حتى وإن جاء ذلك على حساب وحدة الأرض والشعب الفلسطيني.
هذا لا يعني أن الانفصال حتمي، أو أنه خيار قد يكون مقبولا فلسطينياً، لكنه احتمال يتعزز بمرورالوقت إذا لم تتوفرإرادة سياسية جامعة تعيد الاعتبار لفكرة المشروع الوطني الواحد. فالانقسام الداخلي الفلسطيني، الذي استنزف الوطن لسنوات طويلة، يجد اليوم أرضية خصبة ليترسخ في سياق إقليمي ودولي ضاغط. والأخطر أن هذا الانفصال إذا تحقق، قد يُعاد إنتاجه في الوعي الدولي كـ“حل واقعي” للصراع، بحيث يُنظر إلى غزة والضفة كمجالين سياسيين منفصلين يمكن التعامل مع كل منهما على حدة.
استشراف المدى البعيد يكشف عن سيناريو أكثر تعقيداً. فإذا قُدر لدولة فلسطينية أن ترى النور يوماً، فقد تكون في الضفة وحدها أو في غزة وحدها، وليس في الإقليمين معاً. هذا التصور، الذي كان حتى سنوات قليلة مرفوضاً على المستوى الفلسطيني والعربي والدولي، بات اليوم مطروحاً ضمنياً في أروقة السياسة، بل يلقى بعض القبول تحت عنوان “الواقعية السياسية”. الضفة، بما تخضع له من استيطان مكثف وهيمنة إسرائيلية شاملة، تبدو أبعد ما تكون عن إمكانية التحول إلى دولة قابلة للحياة. أما غزة، برغم دمارها الشامل اليوم، فقد تتحول مستقبلاً إلى كيان منفصل قائم بذاته، إذا ما جرى إعادة إعمارها وفق ترتيبات دولية تُعطيها شكلاً سياسياً وإدارياً مستقلاً.
لكن هذا السيناريو يطرح إشكاليات كبرى على الصعيد الفلسطيني. أولاً، لأنه يقوّض الشرعية الوطنية التي تأسست على وحدة الأرض والشعب، ويجعل من “الدولة” كياناً جغرافياً مجتزأً فاقداً للعمق السياسي والتاريخي. ثانياً، لأنه يفتح الباب أمام إعادة صياغة مفهوم القضية الفلسطينية في الوعي الدولي من قضية تحرر وطني إلى مجرد مسألة إدارة مناطق معزولة. ثالثاً، لأنه يمنح إسرائيل ما سعت إليه طويلاً: التخلص من عبء غزة مع إبقاء الضفة تحت سيطرة أمنية واستيطانية تجعل الدولة فيها مستحيلة.
رغم كل ذلك، يبقى العامل الفلسطيني الداخلي حاسماً. فإذا نجحت القوى الفلسطينية في تجاوز انقساماتها وبلورة رؤية وطنية مشتركة لما بعد الحرب، يمكن قلب المعادلة ورفض أي ترتيبات تؤدي إلى تكريس الفصل. أما إذا استمرت حالة التشظي، فإن المشروع الإسرائيلي سيجد طريقه للتنفيذ بدعم دولي وإقليمي.
المعادلة إذن دقيقة: غزة تتجه نحو الانفصال بفعل الضغوط الخارجية واستمرار الانقسام الداخلي، لكن المستقبل ليس مغلقاً تماماً. فالإرادة السياسية الفلسطينية، إن وُجدت، قادرة على إعادة طرح خيار الدولة الواحدة التي تضم الضفة والقطاع معاً، ولو في أفق بعيد. أما من دون هذه الإرادة، فإن ما ينتظر الفلسطينيين هو واقع جديد تُدار فيه غزة ككيان منفصل، وتظل الضفة غارقة تحت الاحتلال، فيما تصبح الدولة الفلسطينية، إن قامت، مجرد ظلّ باهت لفكرة كبرى جرى تفريغها من مضمونها التاريخي والوطني..