لم تكن محاولة استهداف إسرائيل لقيادة حماس في قلب الدوحة حدثا عابراً أمس، رغم أن هذه الضربة تمثل استمرار الكسر غير المسبوق لقواعد الاشتباك الذي تقوم به دولة الاحتلال بشكل معتاد، وهو ما يمثل نقلاً جديداً لساحة جديدة أخرى للصراع من ساحته التقليدية إلى عمق دولة وسيط كانت تحاول أن تلعب دوراً محورياً في التهدئة من خلال تقاطعاتها مع الجانبين. إنها ليست مجرد عملية عسكرية، بل مقامرة سياسية ستترك تداعيات إقليمية ودولية واسعة باعتقادي، بالوقت الذي أثبتت به أن أحداً في غير مأمن من الجرائم الإسرائيلية حتى دول الخليج التي كانت تعتقد أنها محمية.
الدوحة، التي وضعت كل ثقلها في جهود الوساطة لأسباب نحن لسنا في صدد تفاصيلها هنا بالمقال، تجد نفسها اليوم أمام تحدٍ مباشر لسيادتها ولانكشاف الخداع الأمريكي، رغم وجود قاعدة العيديد الأميركية على أراضيها. ومن المرجح أن ترد عبر القنوات الديبلوماسية ومجلس الأمن، مع إعادة تقييم دورها الوسيط إذا شعرت بأن إسرائيل تُفرغ مهمتها من مضمونها وأن إسرائيل لم تعد تعير دورها شيئاً من الأهمية وفق السياسات الإسرائيلية الأمريكية الهادفة إلى استمرار عدوان الإبادة الجماعية والتهجير دون توقف أو بدائل أخرى.
من الصعب تصوّر أن إسرائيل أقدمت على هذه الخطوة من دون ضوء أخضر أميركي. فترمب الذي أعطى الحماية الخادعة لوجود حماس في قطر خلال المباحثات المباشرة بينهم، والساعي دوماً إلى إرضاء القاعدة المؤيدة لإسرائيل وعقلية الحروب حول العالم لدواعي نشر السلام الخادع، قد منح نتنياهو غطاءً سياسياً لهذه المغامرة، في لحظة يحتاج فيها الطرفان إلى مكاسب داخلية.
الضربة في الدوحة ليست معزولة عن المشهد الكلي، إبادة جماعية متواصلة، تطهير عرقي وتهجير في غزة، وتصعيد استيطاني دموي في الضفة الغربية وتوتير الأجواء السياسية في لبنان من خلال الاشتراطات الأمريكية بعد أن تم تطويع سوريا والتهديدات الجارية بحق الأردن. كلها حلقات ضمن مخطط واحد هدفه تجفيف منابع الصمود الفلسطيني سياسياً وميدانياً وقتل أي موقف عربي مشترك ومواجهة تصاعد التأييد الدولي لكفاح شعبنا، وهو ما يعني انهيار فرص التهدئة واستمرار التوجه الإسرائيلي نحو "مخطط الحسم المبكر"، وربما توسيع رقعة المواجهة نحو جبهات أخرى من أجل تنفيذ مشروع الشرق الأوسط الجديد الاستعماري.
ورغم ما نتفق عليه أو نختلف حوله مع حركة حماس، فإن ما جرى بحق قيادة حماس رغم سقوط شهداء وفشله بالهدف يعيد إلى الأذهان ما عاشته منظمة التحرير على مدى عقود ما قبل أوسلو، وحتى لبعض قياداتها بعد ذلك، حين لاحقت إسرائيل قادتها في بيروت وتونس وعواصم أخرى من العالم، وحتى في رام الله وصولا إلى الزعيم الراحل أبو عمار. كان النهج واحداً، ضرب القيادة السياسية كلما برزت كعنوان يمكن أن يفرض نفسه دولياً كطرفٍ مقاوم للمشاريع الأميركية – الإسرائيلية.
اليوم فإن دول الخليج، التي كانت تفكر في التطبيع التدريجي الإبراهيمي مع إسرائيل، يفترض أن تعيد حساباتها، على الأقل من منظور أخلاقي. وفي المحافل الدولية سيُطرح السؤال الكبير، هل باتت إسرائيل تثبت وللمرة المليون أنها دولة مارقة لا تعترف بسيادة أحد؟
على الجميع اليوم، فلسطينيين وغير فلسطينيين، أن يدركوا قبل الغد أن ما يجري ليس استهدافاً لحماس أو حزب الله أو الحوثيون أو فصائل المقاومة وحدهم، وأن لا نوايا لدى نتنياهو لأي صفقة أو تهدئة. ما يحدث هو استهداف لأسس الأمن والسلم الإقليمي، وإصرار على انتهاك القانون الدولي، بل وعدم الاعتراف بنصوصه. جوهر الأمر اليوم بعد أن تم اسقاط المشروع القومي العربي هو مشروع التهجير الجماعي لشعبنا الفلسطيني، وتنفيذ الرؤية الصهيونية القديمة – الجديدة بخلق "أرض بلا شعب" وإيجاد إسرائيل الكبرى.
إن تحويل مسار الصراع إلى الدوحة ليس سوى خطوة أخرى في سلسلة طويلة من محاولات إثبات سياسات اليد الطولى كأداة استعمارية ولتفريغ الأرض من أهلها، وتكريس معادلة الغطرسة والقوة كأداة وحيدة، وهي ذاتها المنهجية التي نشأت وفقها إسرائيل ككيان استعماري إحلالي منذ جريمة النكبة.
وهنا تكمن مسؤوليتنا نحن الفلسطينيين في قراءة المشهد بوعي، وبناء استراتيجية وطنية موحدة تواجه جوهر الخطر المتمثل في اقتلاع الوجود الفلسطيني من الجغرافيا والتاريخ.
المطلوب فلسطينيا اليوم هو:
أولاً - دعوة الدول الأعضاء في الجمعية العامة للأمم المتحدة للتصويت على نقل اجتماع نيويورك إلى جنيف بعد انتهاك الولايات المتحدة اتفاقية المقر ومنحها الضوء الأخضر للاعتداء الإسرائيلي والإبادة المستمرة، بما يجعلها شريكة في جرائم دولة مارقة.
ثانياً - تحشيد الموقف الدولي من أجل طرد أو على الأقل تجميد عضوية إسرائيل في الجمعية العامة للأمم المتحدة، والمطالبة بإعادة اعتبار الصهيونية شكلاً من أشكال العنصرية، والعمل بموجب أحكام الفصل السادس من ميثاق الأمم المتحدة لوقف عدوان الإبادة وإنهاء الاحتلال وفق قرار الجمعية العامة في أيلول من العام الماضي.
ثالثاً - طلب انعقاد قمة عربية تضع النظام العربي أمام مسؤولياته ولتفعيل الاتفاقيات المشتركة العربية وخاصة الدفاع المشترك بالحد الأدنى، وقطع العلاقات الديبلوماسية مع دولة الاحتلال على الأقل أسوة بدول أمريكيا اللاتينية الصديقة، والتأثير على المصالح الأمريكية والإسرائيلية بالمنطقة والخروج من تحت مظلة هيمنتها بالمنطقة.
وفي هذا السياق، يجب ربط هذه المسؤوليات الفلسطينية بواقع ضرورات تجاوز السياسات الأميركية التي كان يُعتقد من البعض أنها ستقدم شيئاً ما. اليوم يتضح أن من اعتُبره البعض وسيطاً أو شريكاً أو راعياً للسلام، لم يكن إلا عنصر خداع، حتى لحلفائه وعامل ضغط على الأرض، وشريك متواطئ سياسياً وعقائدياً مع مشروع تهجير شعبنا الفلسطيني وتصفية قضيته الوطنية التحررية كآخر قضايا التحرر الوطني بعد انهيار نظام القطبين الدولي وتفرد الهيمنة الأمريكية.
ومن هنا، فإن فلسطين اليوم بحاجة إلى استراتيجية بقرار وطني مستقل وموحد للكل الفلسطيني ولمراجعة سياسية جادة لبناء رؤية تحررية وبرنامج وأدوات جديدة بإرادة سياسية مقاومة لمشاريع التصفية، وتفعيل قرارات استنهاض المنظمة وإجراء الانتخابات العامة، تعيد ترتيب أولوياتها الوطنية بعيداً عن أوهام الحياد الأميركي أو القبول الصهيوني لأي آفاق لعملية سلام جادة.