بعد خطابه في الجمعية العامة للأمم المتحدة، التقى نتنياهو مع مجموعة من المؤثرين الرقميين الأمريكيين في القنصلية الإسرائيلية العامة في نيويورك، حيث وصف خلال الإجتماع منصات التواصل الاجتماعي بـ "الجبهة الثامنة" وأنها "أهم سلاح" لضمان إستمرار التأثير الإسرائيلي في الولايات المتحدة. واعتبر نتنياهو أن "تيك توك" هي المنصه الأهم، مشيرًا إلى أن السيطرة عليها يمكن أن تكون "ذات تأثير كبير"، واشار الى أن نفس الأمر ينطبق على منصة "إكس". وقال "إذا تم تأمين النفوذ على هاتين المنصتين، فإن إسرائيل ستحصل على الكثير، لأنها ساحات قتال حقيقية تتقاطع فيها الروايات المتناقضة حول الحرب في غزة والصراع مع الفلسطينيين". وفي معرض سعيه لتحويل المؤثرين إلى "جنود رقميين" في حرب السرديات قال نتنياهو "إن معركة الوعي لا تقل أهمية عن المعركة العسكرية، بل قد تكون أكثر حسماً في حسم المواقف الدولية وضمان استمرار الدعم الغربي."
ومنذ العام 1948، هيمنت السردية الإسرائيلية على الوعي في دول الغرب بشكل مطلق، إذ تمكنت إسرائيل من فرض روايتها حول الصراع باعتبارها دولة صغيرة يحاصرها "الأعداء" من كل جانب، وتواجه تهديداً وجودياً مستمراً. هذه السردية حظيت منذ البداية بدعم واسع على المستويات السياسية والإعلامية والفنية الغربية، تَمَثَل في تبني الحكومات الأوروبية والإدارات الأمريكية المتعاقبة لها، حتى أنها تحولت إلى القاعدة التي ينطلق منها التفكير السياسي والإعلامي الغربي تجاه القضية الفلسطينية. لم يكن هذا التفوق السردي محض صدفة، بل جاء نتيجة عمل دؤوب، مدعوم بميزانيات ضخمة، وجهتها إسرائيل وجماعات الضغط اليهودية إلى مراكز القرار ووسائل الإعلام والمؤسسات الفنية، وعلى رأسها السينما التي لعبت دوراً بالغ الأهمية في تكريس صورة إسرائيل كضحية وككيان محاصر وسط محيط معادٍ.
لقد أتاحت هذه الموارد المالية واللوبيات الإسرائيلية المنظمة أن تكون حاضرة بقوة في صناعة القرار في واشنطن وباريس ولندن، حيث جرى تمرير سرديتها بوصفها الرواية الوحيدة الجديرة بالتصديق. الصحافة الرئيسية، من نيويورك تايمز إلى واشنطن بوست، ومن الغارديان إلى لوفيغارو، ظلت لفترة طويلة أقرب إلى بوق موجه لإعادة إنتاج الصورة الإسرائيلية للعالم. أما في الفنون، وخاصة السينما الهوليوودية، فقد كان الاستثمار في صناعة الوعي أكثر وضوحاً، إذ جرى رسم الفلسطيني والعربي والمسلم في صورة "الإرهابي" أو "المتخلف"، مقابل صورة الإسرائيلي كرمز للتقدم والحداثة والديمقراطية. هذه الأطر السردية تسللت إلى الوعي الجمعي الغربي وأصبحت أحد أعمدة "الذاكرة البصرية" العالمية للصراع. ويكفي أن نتذكر عشرات الأفلام التي قدمت إسرائيل كواحة ديمقراطية، في مقابل تصوير الفلسطينيين والعرب كتهديد دائم للاستقرار، حتى ندرك مدى عمق الاختراق السردي في المخيال الغربي.
أسرائيل عززت حضورها أيضا في الفضاء الإلكتروني مبكرا وبشكل مكثف، عبر مواقع إلكترونية متخصصة، وحسابات رسمية على منصات التواصل الاجتماعي، إضافة إلى جيوش إلكترونية منظمة تعمل على بث رسائل موجهة، الهدف منها احتلال الوعي العربي عبر شن حرب نفسية منظمة، وتشكيل وعي عالمي يتماشى مع السردية الإسرائيلية. وقد نجحت هذه الآلة، إلى حد كبير، في تسويق خطابها خلال العقود الماضية، من خلال التركيز على لغة عاطفية ودينية تحرك الوجدان الغربي، وتستحضر صور "الهولوكوست" ومعاناة اليهود التاريخية كإطار تبريري للعدوان والاحتلال. بل إن الجامعات الغربية الكبرى شهدت اختراقاً مماثلاً عبر تمويل أبحاث وبرامج أكاديمية تروج للسردية الإسرائيلية وتتهم أي صوت ناقد بمعاداة السامية، وهو ما شكل سلاحاً فعالاً لإسكات معارضيها.
تجلت قوة هذه السردية بشكل خاص عقب هجوم السابع من أكتوبر، حيث استطاعت إسرائيل أن تفرض روايتها في الأشهر الأولى من الحرب على غزة. الإعلام الغربي، مدفوعاً بتأثير اللوبيات الإسرائيلية، أعاد إنتاج خطاب "الضحية"، وصور إسرائيل ككيان يتعرض لتهديد وجودي جديد، فيما جرى تهميش أصوات الفلسطينيين، أو التعامل معها بوصفها رواية "مشكوكاً" فيها أو حتى "مضللة". بدا وكأن التاريخ يعيد نفسه، مع استدعاء الصور النمطية القديمة التي قدمت الإسرائيلي في ثوب الضحية والفلسطيني في صورة المعتدي.
غير أن هذه الهيمنة بدأت تتعرض لاهتزاز حقيقي مع تواصل الحرب على غزة، إذ تحولت الشاشات العالمية إلى نافذة يومية على مشاهد الدمار والقتل والتهجير التي ترتكبها إسرائيل. الصور القادمة من غزة، لمدن مدمرة وأطفال تحت الركام، وبشر بهياكل عظمية نتيجة لإستعمال التجويع كسلاح، زعزعت السردية الإسرائيلية، وأدخلت شكوكا عميقة إلى أذهان ملايين المتابعين حول العالم بشأن حقيقة الرواية الرسمية. ومع الوقت، بدأت إسرائيل تخسر قدرتها على احتكار المعنى، إذ لم تعد تستطيع إنكار ما يُبث مباشرة على الهواء من جرائم وانتهاكات، مثل استهداف المدارس والمستشفيات ومخيمات النازحين. هذا الانكشاف العلني وضع إسرائيل لأول مرة أمام مأزق حقيقي: كيف يمكنها أن تدافع عن صورة الضحية فيما هي تمارس دور الجلاد أمام أنظار العالم؟
هنا برز الدور الجوهري لوسائل التواصل الاجتماعي، المتحررة من الرقابة الحكومية ومن تأثير جماعات الضغط. منصات مثل تويتر (إكس) وإنستغرام وتيك توك ويوتيوب أصبحت ساحات مفتوحة للخطاب الفلسطيني، حيث استطاع ناشطون ومواطنون عاديون نقل تفاصيل الحياة اليومية تحت القصف لحظة بلحظة. هذه الأصوات دفعت السردية الفلسطينية إلى واجهة المشهد الإعلامي العالمي، وقدمت رواية بديلة تنفي، أو على الأقل تشكك في الخطاب الذي تروجه وسائل الإعلام التقليدية الممولة جزئياً أو كلياً من جماعات ضغط إسرائيلية. الأهم من ذلك أن هذه المنصات نجحت في خلق تعاطف شعبي واسع مع القضية الفلسطينية، وفي إعادة الأنسنة للفلسطينييين الذين طالما تم التعامل معهم كأرقام وتصويرهم على انهم تهديد أمني.
لم يقتصر أثر هذا التحول على الرأي العام الشعبي فقط، بل تجاوز ذلك ليطال مواقف بعض الأحزاب في الغرب. ففي عدد من الدول الأوروبية، شهدنا تحولات ملحوظة في الخطاب السياسي، حيث تبنت أحزاب معارضة مواقف أكثر جرأة في انتقاد إسرائيل، وصلت إلى حد وصف ممارساتها بأنها "جرائم حرب" أو "إبادة جماعية". هذه الضغوط الشعبية والحزبية دفعت بعض الحكومات إلى اتخاذ مواقف أكثر حزماً، بل إن بعضها أعلن صراحة إعترفت بالدولة الفلسطينية، في خطوة تعكس عمق التحول الجاري في ميزان السرديات. وقد تجلى ذلك في برلمانات دول القارة العجوز، ما يعكس أن الرأي العام لم يعد قابلاً للاحتواء بالسهولة التي اعتادت عليها إسرائيل.
إن ما نشهده اليوم هو معركة سرديات مفتوحة، لم تعد فيها إسرائيل قادرة على الاحتكار المطلق للرواية كما كان الحال منذ 1948. صحيح أن لديها أدوات نفوذ قوية، من المال إلى اللوبيات إلى النفوذ الإعلامي والسياسي، لكن هذه الأدوات لم تعد كافية أمام مشهد عالمي جديد ترسمه صور البث المباشر للمقتلة الإسرائيلية للمدنيين الفلسطينيين العزل في غزة ، التي تعرض في القنوات التلفزيونية ومقاطع الفيديو المنتشرة على هواتف وشاشات كميوتر ملايين البشر حول العالم . لقد أثبتت الحرب على غزة أن السردية الإسرائيلية قابلة للتآكل حين تُوضع أمام اختبار الحقيقة، وأن الرواية الفلسطينية، على الرغم من ضعف إمكانياتها، قادرة على الصمود بل وعلى كسب أرضية جديدة حين تجد المنابر المناسبةً.
إن حرب السرديات ليست مجرد صراع على الكلمات والصور، بل هي معركة على الوعي ذاته: وعي الشعوب، ووعي صناع القرار، ووعي الأجيال المقبلة. إسرائيل التي نجحت لعقود في تقديم نفسها كضحية دائمة، تجد نفسها اليوم متهمة أمام الرأي العام العالمي بارتكاب جرائم ضد الإنسانية. والفلسطينيون الذين طالما جرى تهميش أصواتهم، يحققون حضوراً متزايداً في فضاء مفتوح لم يعد يخضع لوصاية الآلة الإعلامية التقليدية. في هذا السياق، يبدو أن ميزان السرديات يتجه نحو إعادة التوازن، وربما قلب المعادلة على المدى الطويل، بحيث يصبح الاعتراف بالحقوق الفلسطينية ليس مجرد موقف أخلاقي أو إنساني، بل حقيقة سياسية لا يمكن تجاهلها.