إسرائيل وساعة رمل المصالح الأمريكية

لحظة وصول الرئيس الأمريكي دونالد ترمب إلى تل أبيب قبل قليل

 

 

 

لم يكن فرض الرئيس الأمريكي دونالد ترمب اتفاق وقف الحرب في غزة على إسرائيل حدثاً استثنائياً في تاريخ العلاقات بين واشنطن وتل أبيب، بل هو حلقة جديدة في سلسلة طويلة من محطات شهدت فيها إسرائيل خضوعاً نسبياً للضغوط الأمريكية حين تمسّ المصالح الاستراتيجية الكبرى للولايات المتحدة. فمنذ قيام إسرائيل، لم تتردد الإدارات الأمريكية المتعاقبة في التدخل أو حتى فرض قرارات على تل أبيب عندما ترى أن السياسات الإسرائيلية تهدد بنية نفوذها في الشرق الأوسط أو تزعزع استقرار الإقليم بما يضر بمصالحها الحيوية، وخاصة المتعلقة بالطاقة والتحالفات الأمنية مع الدول العربية "المعتدلة".

لقد تكرر هذا النمط في أكثر من محطة تاريخية. ففي عام 1956، خلال العدوان الثلاثي على مصر، أجبرت إدارة الرئيس دوايت أيزنهاور إسرائيل على الانسحاب من سيناء رغم تحقيقها مكاسب عسكرية ميدانية، إدراكاً من واشنطن أن استمرار العدوان سيقوض مكانتها في العالم العربي ويمنح الاتحاد السوفييتي آنذاك فرصة لتعزيز نفوذه في المنطقة. وبعد حرب أكتوبر 1973، قادت إدارة نيكسون بوزيرخارجيتها هنري كيسنجر جولات شاقة من مفاوضات فصل القوات بين مصر وإسرائيل وسوريا، مستخدمة نفوذها على تل أبيب لتجنب توسع الحرب وإعادة ترتيب موازين القوى بما يحفظ مصالحها ويكرس دورها كوسيط لا غنى عنه في الصراع العربي الإسرائيلي. ثم تكرر المشهد عام 1991 عندما ضغطت إدارة جورج بوش الأب على حكومة إسحق شامير لوقف التوسع الاستيطاني وربطت تقديم ضمانات قروض بموافقة إسرائيلية ضمنية على المشاركة في مؤتمر مدريد للسلام، انطلاقاً من رؤية استراتيجية تعتبر أن التمادي في الاستيطان يعيق بناء تحالف دولي ضد العراق ويعرقل مشروع النظام العالمي الجديد الذي بشّر به بوش بعد حرب الخليج الأولى.

اليوم، يتكررالمشهد نفسه بنسخة أكثر تعقيداً، ولكن مع متغيرات دولية وإقليمية مختلفة. فترمب الذي صاغ اتفاق وقف الحرب في غزة وقدمه بصفته «خطة سلام» لم يكن في جوهر الأمر يبتكر نهجاً جديداً، بل يعيد إنتاج السياسة الأمريكية القديمة التي تضع مصالح واشنطن فوق كل اعتبار، حتى لو تطلب الأمر ليّ ذراع الحليف الإسرائيلي. فالموقف الأمريكي الراهن لا يعكس تعاطفاً مع الفلسطينيين بقدر ما يعبر عن قلق استراتيجي عميق من تداعيات استمرار الحرب على منظومة النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط والعالم.

الولايات المتحدة تخشى أن يؤدي استمرار الحرب إلى خلخلة التوازنات الدولية الدقيقة التي تحاول جاهدة الحفاظ عليها في مواجهة صعود قوى منافسة كالصين وروسيا وإيران، وحتى الهند التي تميل أكثر فأكثر إلى انتهاج سياسة خارجية مستقلة عن الغرب. كما ان كل يوم إضافي في الحرب يضاعف الغضب الشعبي في العالمين العربي والإسلامي، ويمنح خصوم واشنطن مادة دعائية جاهزة لتصويرها كراعٍ للعدوان ومنافق في خطابه حول الديمقراطية وحقوق الإنسان. وهو ما يهدد بتآكل شرعية نفوذها في المنطقة ويضعف قدرتها على إدارة تحالفاتها التقليدية، خصوصاً مع الدول العربية التي تواجه ضغوطاً شعبية متزايدة ضد التطبيع والتنسيق الأمني مع إسرائيل.

كما أن استمرار الحرب يهدد المشاريع الأمريكية الاستراتيجية الكبرى في المنطقة، وعلى رأسها مسار «اتفاقيات أبراهام» التي كانت واشنطن تراهن على توسيعها لتشكيل تحالف إقليمي عربي-إسرائيلي في مواجهة إيران. فالمشاهد الدموية القادمة من غزة نسفت عملياً الأرضية السياسية والشعبية لهذا التحالف، وجعلت أي دولة عربية تفكر ملياً قبل أن تنخرط في ترتيبات إقتصادية أوأمنية علنية مع إسرائيل. كذلك، فإن الفوضى الإقليمية المحتملة إذا ما امتدت الحرب إلى لبنان أو البحر الأحمر أو الضفة الغربية، تعني بالنسبة للولايات المتحدة عودة الشرق الأوسط إلى مركز أولوياتها، في وقت تسعى فيه جاهدة لتحويل تركيزها الاستراتيجي نحو شرق آسيا واحتواء الصعود الصيني.

على المستوى الدولي، جاءت الحرب على غزة لتوفر فرصة ذهبية لموسكو وبكين لتوسيع نفوذهما في الجنوب العالمي. فقد استطاعت العاصمتان تقديم نفسيهما كصوت للمظلومين في مواجهة ازدواجية المعايير الغربية، مستخدمتين صور الدمار في غزة كرمز لإفلاس النموذج الأمريكي. وبذلك لم تعد المعركة في غزة محصورة في حدودها الجغرافية، بل تحولت إلى معركة سرديات بين قوى الهيمنة التقليدية وقوى النظام الدولي الجديد. ومن منظور واشنطن، كل يوم إضافي من القصف الإسرائيلي يعني تراجعاً إضافياً في مكانتها السياسية أمام جمهور عالمي بات أكثر تشككاً في خطابها النظام القائم على القيم والقانون الدولي بحسب وصفها.

إزاء هذا الواقع، لم يكن أمام إدارة ترمب سوى استخدام كل أدوات الضغط المتاحة على نتنياهو لوقف الحرب قبل تحقيق أهدافه المعلنة. فالإدارة الأمريكية كانت تدرك أن استمرار العمليات العسكرية سيقود إلى مأزق سياسي مزدوج: من جهة، تآكل صورة الولايات المتحدة في العالم العربي والإسلامي، ومن جهة أخرى، تعزيز موقع خصومها الجيوسياسيين في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية الذين يروجون لفكرة انحدار الهيمنة الأمريكية. لذلك، جاء الاتفاق الذي فُرض على إسرائيل ليس بوصفه مبادرة إنسانية، بل كخطوة وقائية لحماية ساعة الرمل السياسية الأمريكية من النفاذ في عالم يتغير بسرعة.

والمفارقة أن الخطة التي حملت اسم ترمب تخدم، في جوهرها، المصالح الإسرائيلية بعيدة المدى، إذ تكرس فكرة الحل الأمني وتؤجل معالجة جذور الصراع، لكنها في الوقت ذاته جاءت على حساب الأجندة الإسرائيلية القصيرة المدى التي يسعى إليها نتنياهو والمتطرفون في حكومته. فترمب، ببراغماتيته المعروفة، لا يريد حرباً مفتوحة قد تُربك الأسواق أو تُعقّد حساباته الداخلية أو تُفقد واشنطن موقعها القيادي عالميا، حتى وإن بدا خطابه العلني داعماً لإسرائيل بلا حدود.

من هنا يمكن القول إن إسرائيل وجدت نفسها هذه المرة في مواجهة معقدة مع «الساعة الرملية» الأمريكية التي لا تتوقف. فواشنطن ترى أن الزمن لم يعد في صالحها، وأن أي استنزاف إضافي في غزة يسرّع من تآكل مكانتها الدولية ويمنح خصومها فرصاً مجانية لتعزيز حضورهم في المنطقة والعالم. أما نتنياهو، فيدرك أن التوقف عند هذه النقطة يعني اعترافاً ضمنياً بعدم تحقيق الأهداف التي حددها للحرب، لكنه لا يستطيع المجازفة بخسارة المظلة الأمريكية التي تُعد ركيزة وجود إسرائيل في النظام الدولي.

هكذا تبدو العلاقة بين الطرفين أشبه برقصة على رمال متحركة: إسرائيل تحاول كسب الوقت لتحقيق مكاسب سياسية داخلية، والولايات المتحدة تسعى لوقف النزيف الاستراتيجي في رصيدها العالمي. وفي النهاية، لا شيء يختصر المشهد أكثر من صورة ساعة الرمل السياسية الأمريكية وهي تنزف حباتها الأخيرة في غزة، بينما تحاول واشنطن ضبط إيقاع الزمن قبل أن ينقلب عليها التاريخ ذاته الذي طالما كانت تمليه على الآخرين..

 

 

 

 

Loading...