في توقيت مثالي ومخطط بعناية، وبينما تجتاح العواطف البلاد، حطّ في إسرائيل مهندس الصفقة، "ملك الاتفاق"، المنتج الأعلى، الرجل الذي بفضله حدث كل شيء: دونالد ترامب. لم يمكث سوى بضع ساعات، لكنه اجتاح البلاد كنجمة روك ضخمة. أما خطابه في الكنيست – فـ"واو". كاريزما، كوميديا، تاريخ، مديح، هجوم، رؤية، أحلام – كل ذلك كان هناك.
الانقلاب
قبل نحو شهر، قرر ترامب أن الأمر انتهى. سئم من الحرب الدموية في غزة. المظاهرات الغاضبة حول العالم، والسخط الدولي المتزايد على إسرائيل، وحتى الاحتجاجات داخل الولايات المتحدة، بدأت تُحرج إدارته. وبدأت الاتهامات تنهال: "إسرائيل تجرّنا إلى الحروب، تُضعفنا عالميًا، وتجعل أمريكا تدفع الثمن". عندها قرر ترامب أن يوقف هذا النزيف. قرر إنهاء السبب الرئيس لعدم الاستقرار – الحرب في غزة – حتى لو انقلب العالم رأسًا على عقب.
استعان بالصفقة بتركيا وقطر – العدوتين اللدودين لإسرائيل، والراعيتين التاريخيتين لحماس. وبمجرد إعلانهما الانضمام إلى الصفقة، أدرك أن حماس محاصرة، بلا ظهر، ولا داعمين. وأُغلق الملف نهائيًا يوم الأربعاء الماضي في شرم الشيخ.
نشر الصحفي باراك رافيد أمس أن ترامب أرسل اثنين من المقربين إليه – ستيف ويتكوف وجاريد كوشنر – للقاء قيادي حماس خليل الحية، حيث تم الاتفاق على إنهاء الحرب وإطلاق سراح جميع الرهائن. إنها معلومة مذهلة: محادثات مباشرة مع أحد قادة تنظيم إرهابي، فوق رأس إسرائيل. خليل الحية، الذي نجا مؤخرًا من محاولة اغتيال في قطر، سأل ويتكوف إن كان يحمل رسالة من الرئيس ترامب، فأجابه: "رسالة الرئيس هي أنكم ستحظون بمعاملة عادلة". خرج قادة حماس للتشاور مع الوسطاء، وبعد الاجتماع أعلن رئيس المخابرات المصرية: "لدينا اتفاق".
هل خضع نتنياهو للضغوط؟
الآن جاء دور نتنياهو. فبحسب سلسلة تسريبات من مقربين من ترامب، سيُكشف المزيد لاحقًا عن حجم الضغوط التي مارسها ترامب على نتنياهو ليقبل بالاتفاق. نتنياهو كان يخشى أن يؤدي إنهاء الحرب إلى تفكك حكومته. ثمة من يعتقد أنه لم يكن خائفًا حقًا، بل استخدم بن غفير وسموتريتش كذريعة ليتنصل من إنهاء الحرب. أراد استمرار القتال بوتيرة منخفضة لأسباب سياسية. ومن يعرف ترامب – ابن عالم العقارات العدواني في نيويورك – يعلم مدى قدرته على الضغط. دارت بينهما مكالمات قاسية، حتى أن ترامب قال له: "لماذا أنت دائمًا سلبي إلى هذا الحد؟!"
ووفق تقرير نشر قبل ثلاثة أيام في صحيفة واشنطن بوست، تصاعدت التهديدات. قال ترامب لنتنياهو: "إذا رفضت الصفقة، سأفرض حظر سلاح على إسرائيل". وأضاف: "من دون دعم الولايات المتحدة، لن تبقى إسرائيل". ضغوط متزايدة، أكثر شراسة يومًا بعد يوم. ويتكوف، كوشنر، وزير الخارجية ماركو روبيو، وفوقهم ترامب نفسه – جميعهم مارسوا ضغطًا مباشرًا. حتى ذريعة نتنياهو المعتادة بشأن سموتريتش وبن غفير لم تنجح هذه المرة. يائير لابيد تحدث عدة مرات مع ويتكوف، ونقل لترامب رسالة مفادها أن كتلة "يش عتيد" المؤلفة من 24 نائبًا ستدعم أي صفقة تنهي الحرب وتعيد الرهائن.
لعبوا اللعبة
استسلم نتنياهو لمكبس الضغوط، ومنذ ذلك الحين يحاول إقناع الجميع بأن الخطة خطته، وأن كل شيء تم بالتنسيق مع الرئيس ترامب. وسيواصل تكرار ذلك، رغم أن ترامب ليس من النوع المتواضع الذي يتنازل عن المجد. ترامب يحرص – وسيحرص – على أن يعرف الجميع، في الشرق الأوسط كله، أن الفضل له وحده. قال بفخر: "هذه الصفقة هي أعظم إنجاز دبلوماسي لي. ربما أعظم ما فعلته". ولم يمنح نتنياهو سوى القليل من الفضل. أما ويتكوف وكوشنر، صديقه القديم وصهره، فنالوا نصيبًا واسعًا من التقدير – "فضل العائلة".
خطابات الكنيست
رئيس الكنيست، ونتنياهو نفسه، يدركان جيدًا أن لا أحد في العالم يحب سماع المديح عن نفسه أكثر من دونالد ترامب. إنه مهووس بصورته وبالمقارنة بينه وبين من يكرههم – بايدن وأوباما. لذا عندما بالغ أوحانا ونتنياهو في المديح له، مؤكدين أنه "الأعظم، والأكثر نجاحًا، وأن أمريكا في عهده كانت الأقوى في تاريخها"، كان ترامب يبتسم بسعادة. ومع ذلك، وبروح الدعابة المعهودة، وجه إليهم طعنة خفيفة: "لقد أطلتُم في خطاباتكم وربما أتأخر عن مصر بسببكم. حظكم أنني أحببت ما قلتموه – تخيلوا ماذا كنت سأفعل لو لم يعجبني!"
قمة شرم الشيخ – والانسحاب في اللحظة الأخيرة
حدث بالأمس أيضًا ما كاد أن يفلت من الانتباه وسط الزخم الإخباري. اجتمع قادة الدول العربية في شرم الشيخ مع الرئيس ترامب لمناقشة "اليوم التالي في غزة" ومستقبل المنطقة. لم يُدعَ نتنياهو إلى القمة، إذ لم يتحدث مع الرئيس المصري السيسي منذ سنوات، والعلاقة بينهما متوترة. وبضغط من ترامب، جرت مكالمة بين نتنياهو والسيسي، وبعدها أُعلن أن نتنياهو دُعي إلى القمة، وأنه سيسافر إليها فور انتهاء خطابه في الكنيست. لكن بعد ساعتين فقط – أُلغي كل شيء.
مكتب رئيس الوزراء أعلن أن الإلغاء تم "بسبب قدسية العيد"، إلا أن مسؤولين في حزب "يهدوت هتوراه" نفوا تمامًا أن يكونوا طلبوا ذلك. السبب الحقيقي كان سياسيًا على الأرجح: فمحمود عباس سيحضر القمة، وسيُطرح فيها موضوع الدولة الفلسطينية. نتنياهو فضّل الإلغاء كي لا يثير غضب قاعدته الانتخابية.
فالانتخابات تقترب، وهو لا يريد استفزاز قاعدته التي لم تحصل على ما وُعدت به: لا ضم للضفة الغربية، ولا إعادة الاستيطان في غزة. حتى "حيّ الشرطة" الذي وعد بن غفير ببنائه على شواطئ غزة – تبخر. الأسبوع الماضي كان من المفترض عقد مؤتمر كبير لليمين حول تجديد الاستيطان في غزة. في 22 يونيو عُقدت في الكنيست جلسة لمنتدى تجديد الاستيطان اليهودي في القطاع تحت عنوان: "ريفييرا غزة – من الحلم إلى الواقع". وها هو الحلم يتبخر، فلا ريفييرا، ولا استيطان، بل حماس التي تبقى في غزة وتعيد ترسيخ سيطرتها هناك – لدهشتنا جميعًا.
أعلن نتنياهو أنه ألغى زيارته إلى القمة بسبب عيد "سمحة توراه" – هكذا قال. لكنه قال أشياء كثيرة من قبل.
فضيحة في الكنيست
كلمة أخيرة عن الضرر الذي ألحقه رئيس الكنيست أمير أوحانا بمؤسسة الكنيست نفسها. قراره بعدم دعوة رئيس المحكمة العليا القاضي يتسحاق عميت، والمستشارة القانونية للحكومة غالي بهراف-ميارا – خلافًا للأعراف – كان وصمة عار. لقد أساء إلى منصبه الذي يفترض أن يكون فوق السياسة، فقط لينال كلمة مديح من نتنياهو وربما من زوجته سارة، والأهم: لكسب ودّ ناخبي الليكود. أضيفوا إلى ذلك أن الدعوات خُصصت لعدد من نشطاء الليكود على حساب مقاعد عائلات الرهائن والقتلى، وستفهمون أن أوحانا يتظاهر بأنه رجل دولة بينما يتصرف كسياسي صغير. بالمناسبة، فقط بعد تغريدة من الصحفي حاييم ليفنسون، نُقلت بعض الدعوات إلى عائلات الرهائن. عار وخزي.
ما القادم؟
أمس أُعيدت أربع جثث لجنود، خلافًا لوعود حماس. ويبدو أن الجثامين ستستمر بالوصول إلى إسرائيل، ولا يعلم سوى الله إن كان سيتم العثور على جميعها.
لكن السؤال الكبير هو: ما التالي؟ من سيسيطر على غزة؟ ما مصير حماس؟ من سيتمكن من نزع سلاح القطاع؟ وماذا عن الجزء الثاني من الاتفاق، الأكثر تعقيدًا وتشعبًا؟
الانتخابات أيضًا على الأبواب. يوم الأحد المقبل سيبدأ الكنيست دورة الشتاء، وغزة – كما في السنوات الأخيرة – ستكون على رأس جدول الأعمال السياسي. سموتريتش وبن غفير ضعفا سياسيًا، بعيدَين عن الـ14 مقعدًا اللذين حصلا عليهما في الانتخابات السابقة. وسموتريتش بات تحت نسبة الحسم في معظم الاستطلاعات. فهل سيقرر الاثنان أن بقاء حماس وعدم تفكيكها وعدم نزع سلاح غزة مبررات كافية لإسقاط الحكومة والذهاب إلى انتخابات جديدة؟ وماذا عن قانون الإعفاء من الخدمة العسكرية الذي يطالب به الحاخامات ولم يُقر بعد؟ وماذا عن الميزانية؟ فإذا لم تُقر حتى مارس 2026 – فلن تبقى حكومة.
تلك هي العقبات التي تواجه نتنياهو وحكومته بعد انقضاء النشوة الكبرى بانتهاء الحرب وبداية ما بعد الأعياد. المؤكد الوحيد – أنه سيكون مثيرًا، مثيرًا جدًا.
موقع واللا
ترجمة عصمت منصور