
الصمود لا يُستعاد بالوعود الأمريكية، بل بتجديد الإرادة السياسية الوطنية. ففي زمن تتكاثر فيه الضغوط والتشرذم الوطني، يُختبر جوهر الإرادة الوطنية الفلسطينية بين واقع المجازر المستمرة في غزة حتى اليوم من خلال عدم وضوح وتفخيخ الاتفاقية الموقعة من البعض، والتوسع الكولونيالي في الضفة والقدس بما في ذلك سياسة الضم بالأمر الواقع، وانسداد الأفق السياسي لإنهاء الاحتلال اولاً واقامة الدولة المستقلة ذات السيادة التي أصبح مبدأ إقامتها مهدداً. فهل ما زال الإصرار على الصمود حياً في وجداننا نحن الفلسطينيين، أم أنه تراجع تحت وطأة الإحباط وغياب القيادة الجامعة المفترضة في إطار منظمة التحرير بالمكانة التمثيلية التي اكتسبتها بفعل كفاح شعبنا وتضحياته؟
في لحظات الانكسار تصبح الأسئلة البسيطة أكثر عمقاً من أي خطاب سياسي، فهل غاب الإصرار على الصمود؟ وهل فقدنا القدرة على تحويل الألم إلى طاقة حياة؟ إنها محاولة لقراءة مأزق الإرادة الوطنية في زمن تتكاثر فيه الأزمات وتُختبر فيه قدرة شعبنا على النهوض من تحت الركام.
لقد تراجع الصمود من فعل جماعي منظم إلى مبادرات فردية مشتتة، في غياب قيادة وطنية جامعة قادرة فاعلة على تحويل الطاقة الشعبية إلى مشروع تحرري يعيد الثقة بالنفس وبالقدرة على الفعل الوطني بتوافق وطني سندا للقرار المستقل. فالصمود لم يكن يوماً مجرد احتمال للمعاناة، بل مشروع وطني متكامل يقوم على الإخلاص للفكرة والعمل المبدع والقدرة على تحويل الخسارة أو الانكسار إلى دافع للاستمرار كما كان في محطات مختلفة من مسيرة كفاحنا الوطني.
لكن غياب الشفافية وضعف المشاركة السياسية وتآكل الثقة بالمؤسسات الرسمية او بالقوى السياسية التقليدية – وفق استطلاعات الرأي الأخيرة – جعل إرادة الصمود تتراجع. فحين تتحول إدارة الشأن الوطني إلى قرارات فوقية أو تفاهمات او توازنات غامضة بين مراكز نفوذ، يغيب الصمود الحقيقي القائم على الانتماء والوعي والشراكة، ويحل مكانه صمود شكلي تحكمه أدوات البقاء لا أدوات البناء الوطني نحو إنهاء الاحتلال الاستيطاني.
وما يضعف الإصرار اليوم هو غياب الإرادة السياسية عند البعض، والبوصلة الوطنية عند البعض الآخر، واحتكار القرار بيد قلة من مراكز النفوذ التي لم تعد قادرة على إنتاج الأمل أو صناعة المستقبل في غياب المنهج الديمقراطي الحقيقي، والتي فتحت الباب امام قرارات لا تحظى بالإجماع خاصة في شأن الحرب والسلم. لذلك فإن إعادة الاعتبار للصمود تبدأ من مراجعة نقدية للذات وتجديد بنية النظام السياسي بما في ذلك أطر منظمة التحرير بدء من المجلس الوطني، كما في جوهر ومفاهيم الحركة الوطنية وبالمقدمة منها حركة "فتح" بهدف استنهاضها، وتحويل المقاومة السياسية بأشكالها المتنوعة القانونية والشعبية، من رد فعل إلى رؤية استراتيجية تربط بين النضال السياسي وبناء الإنسان ومؤسسات الدولة حتى وان كانت تحت الاحتلال لحين الاستقلال الوطني.
فالهزيمة الحتمية لا وجود لها ما لم نستسلم للعزلة واليأس، لكن الانتصار أيضاً لن يتحقق بشعارات بلا برامج وأدوات تنفيذ. المطلوب إرادة جديدة، عقلانية وثورية في آنٍ واحد، تقاس بقدرتها على تحويل الألم إلى مشاريع مجتمعية وسياسية ملموسة قابلة للقياس.
فشعبنا لم يتخلى عن الصمود منذ جريمة النكبة الأولى ولا الى الاستسلام لفكر الحركة الصهيونية، كما في غزة في مواجهة المحرقة وإسقاط مخطط التهجير، وفي أرياف الضفة الغربية بمواجهة إرهاب المستوطنين وفي القدس في مواجهة التهويد وفي النقب والمُثلث والجليل في مواجهة الفوقية اليهودية والابتهاج، كما في زمن الاحتلال في التصدي لكل محاولات شطب منظمة التحرير وتنفيذ مشاريع الإدارة المدنية والدمى البديلة من روابط القرى وغيرها. أن استعادة هذه الثقة تكون بإعادة تعريف مشروعنا الوطني التحرري وفق المتحركات السياسية بالأقليم وعلى المستوى الدولي خاصة مع انتفاضة الشعوب من اجل كفاحنا العادل وسلسلة الاعترافات التي جاءت خطة ترامب لمحاصرتها. وبتحويل الصمود من حالة سكون إلى فعل منظم وواعي، يربط بين النضال الوطني ومفهوم المواطنة المدنية اليومية وديمقراطية النظام السياسي.
لكن في مقابل هذه الحاجة إلى تجديد الإرادة الوطنية السياسية في مواجهة الوعود الزائفة والأسرار الاسرائيلي في تقويض بل وإنهاء مبدأ حل الدولتين واقعياً، وبعدم تقبل حتى فكرة السلام، يطل علينا من يروّج لأوهام سياسية تحت عناوين براقة مثل “الأمل الجديد” و“بدايات شرم الشيخ”، وكأن القضية الفلسطينية يمكن أن تُختزل في مؤتمر للمانحين أو في وعود أمريكية. فشرم الشيخ لم تكن "بداية أمل فلسطيني جديد" كما أدعى البعض في مقالات لهم ولم يأتي بتأييد دعم العضوية الكاملة لدولة فلسطيني في هيئة الأمم وفق ما اعتقد البعض او توهم ، بل كانت استعراضاً لإدارة الأزمة لا لحلها ، ومحاولة لإعادة إنتاج الوصاية على القرار الفلسطيني تحت شعارات إنسانية منمقة وواهية بعيدا عن مبدأ حق تقرير المصير وإنهاء الاحتلال وإقامة الدولة التي نفهمها نحن وفق المواثيق والقرارات الدولية ، ومن اجل الاستثمار التجاري في مشروع ريفيرا غزة ومصادر الغاز فيها ، اضافة الى تقسيم غزة واستدامة الاحتلال بأشكال ومسميات مختلفة . ورغم أتفاق الهدنة الذي يحتاجه شعبنا بما سُمي وقف إطلاق النار، من المؤسف أن يتم وصف تلك الخطط بأنها “لحظة إنسانية نادرة من جانب ترامب” من بعض هؤلاء الكُتاب الذين اعتقد بأنهم لا يقرأون ما يكتبون. فترامب الذي يسعى للحروب كما هو شريكا استراتيجيا لدولة الاحتلال لحمايتها وانقاذها، فخطته هي في الواقع لحظة استثمار سياسي في معاناة شعبنا، ضمن سياقها المفخخ التي تنفي وحدة الوطن والشعب وتُفكك جوهر القضية التحررية.
كلماتي هنا ليست دعوة إلى صمود بلا مشروع وطني تحرري يتوجب اعادة تعريفه اليوم كما جوهر ومعنى الحركة الوطنية الفلسطينية وتجديد أدوارها، بل إلى إصرار يربط بين الواقعية السياسية والثوابت الوطنية بشأن حقوقنا غير القابلة للتصرف، ليعيد الثقة المفقودة بين الشعب وقياداته ويعيد القيادة الى شارع الاحداث المتسارعة. صمود يؤكد أن لا مكان فيه للهزيمة ولا مكان لسلام تحت حراب الاحتلال الاستعماري بمسميات مختلفة، ما دُمنا نحن نملك إرادة النهوض وإصلاح الذات وبناء أدوات الصمود من جديد برؤية واضحة موحدة تمثل إرادة شعبنا الطامح الى وطنٍ حُر وسلام ثابت في ظلال من الحرية والعدالة والمساواة وغياب الاستعمار العنصري.