
أخيراً يصدر عن رئيس الجمهوريّة جوزف عون كلامٌ يشير إلى أنّ لبنان يريد بالفعل تفادي الكارثة المركّبة التي يبدو مقبلاً عليها، بدل الاستسلام للقوى التي تريد حرمانه من حقّه في الحياة. الكلام الذي قاله رئيس الجمهوريّة عن التفاوض مع إسرائيل، التي لم يسمّها، ليس جديداً. الجديد هو التركيز على أن “لا خيار آخر غير التفاوض”. إنّه كلام منطقيّ، لكن كيف ترجمته على أرض الواقع في ظلّ ظروف داخليّة وإقليميّة في غاية التعقيد؟
العزلة العربيّة التي يعيش في ظلّها لبنان من جهة هي العنوان الرئيسي للظروف الداخلية، ونوعٌ من الازدراء الأميركيّ له من جهة أخرى. وليس ما يؤكّد هذا الازدراء أكثر من استعداد الرئيس دونالد ترامب لاستقبال الرئيس السوريّ أحمد الشرع في واشنطن في العاشر من الشهر الجاري.
سيكون الشرع أوّل رئيس سوريّ يستضيفه البيت الأبيض منذ استقلال سوريا في عام 1946. كان الشرع في الرياض حديثاً، وكان موضع ترحيب سعوديّ لافت بحضور الأمير محمّد بن سلمان، وليّ العهد السعودي، في ظلّ غياب لبنانيّ لافت. إنّه سبب كافٍ كي يفكّر لبنان، على أعلى المستويات، في كيفيّة إيجاد موقعٍ له على الخريطة السياسيّة للمنطقة، بدءاً بمعرفة ما تريده إسرائيل فعلاً غير الانتهاء من سلاح “الحزب”.
إضافة إلى ذلك كلّه، لم يكن وقع كلام المبعوث الأميركي توم بارّاك إلى سوريا ولبنان سهل الابتلاع. كان تعبيراً عن معاناة ذات طابع شخصي لبارّاك نفسه مع طبيعة المهمّة التي أُوكلت إليه في بلدٍ تعود أصوله إليه. وكان قوله إنّ لبنان “دولة فاشلة” بمنزلة فقدان أملٍ بأيّ مسعى يمكن أن تقوم به أميركا من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه من لبنان. اكتشف بارّاك أن لا تجاوب لبنانيّاً مع أيّ إصلاحات، ولا استيعاب لأهمّيّة نزع “الحزب” لسلاحه بطريقة أو بأخرى.
ربّما كان توقيت صدور كلام الرئيس جوزف عون بالصدفة، وربّما كان أمراً مقصوداً أن يصدر الكلام عن “خيار التفاوض”، لأنّه لا يوجد بديل منه، في الثالث من تشرين الثاني 2025، يوم توقيع اتّفاق القاهرة المشؤوم في عام 1969. هل أراد رئيس الجمهوريّة القول إنّ لبنان تعلّم من درس توقيع اتّفاق القاهرة؟
كان الاتّفاق – الجريمة فعل إلغاء لبنانيّ من جانبٍ واحدٍ لاتّفاق الهدنة مع إسرائيل، الذي ضمن هدوءاً في جنوب لبنان بين 1949 و1968، حين بدأ مسلّحون فلسطينيّون يتسلّلون إلى جنوب لبنان لتنفيذ عمليّاتٍ في الجانب الآخر من خطّ الحدود. يطالب لبنان حاليّاً، بين حينٍ وآخر، بالعودة إلى اتّفاق الهدنة، كأنّ اتّفاق القاهرة كان حادثاً عابراً… أو خطأً مطبعيّاً يمكن إصلاحه بجرّة قلم!
لا يمكن الاستهانة بكلام رئيس الجمهوريّة عن أن “لا خيار آخر” غير التفاوض، خصوصاً أنّ مخاطر الكارثة التي يسير لبنان في اتّجاهها كبيرة إلى أبعد الحدود، أقلّه لسببين. أوّلهما حجم الدمار الذي يمكن أن تتسبّب به حربٌ إسرائيليّة جديدة على لبنان تُشنّ من الجوّ بحجّة امتناعه عن التخلّص من سلاح “الحزب”. أمّا السبب الآخر، فهو عائد إلى أنّ إسرائيل تبدو مصرّة، إلى إشعارٍ آخر، على البقاء في نقاط معيّنة داخل الجنوب اللبنانيّ.
كيف يتمّ منع حملة عسكريّة إسرائيليّة جديدة على لبنان؟ كيف يتمّ ضمان انسحابٍ إسرائيليّ من الجنوب؟ كيف تتمّ عودة أهل القرى المدمّرة إلى أرضهم تمهيداً للسعي إلى إعادة إعمار هذه القرى؟ مَن الطرف المستعدّ للمساهمة في إعادة الإعمار بوجود سلاح “الحزب” وفي غياب سلامٍ مع إسرائيل؟ لا توجد جهة عربيّة أو دوليّة على استعداد لذلك. كلّ ما بقي نشاط ذو طابع فولكلوريّ تقوم به جهات لبنانيّة لا أكثر.
من هذا المنطلق، المطروح لبنانيّاً ليس الدخول في مفاوضاتٍ مع إسرائيل وحسب، بقدر ما أنّ المطروح إعطاء بعدٍ سياسيّ ومعنى لهذه المفاوضات، بعيداً عن الشكل وعن اعتباراتٍ من النوع المضحك المبكي عن تفادي مشاركة أيّ سفير أو وزير في الوفد اللبناني. هل المظاهر أهمّ من المضمون، أم المطلوب في نهاية المطاف التوصّل إلى نتائج ملموسة تتوَّج بتحقيق الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب وعودة المهجّرين إلى قراهم؟
بعيداً عن الاعتبارات التي يسمّيها بعضهم “وطنيّة”، يظلّ مهمّاً السعي إلى تحقيق نتائج. النتائج وحدها كفيلة بإعطاء معنى لكلام رئيس الجمهوريّة بدل الدوران في حلقةٍ مقفلة. إنّه دوران يجعل البلد يدور على نفسه.
لن يساعد أحد لبنان إذا لم يساعد نفسه. يبدأ لبنان بمساعدة نفسه عبر التعاطي مع الواقع كما هو. يقول الواقع إنّ البلد كلّه يدفع حاليّاً ثمن فتح “الحزب”، ومن خلفه إيران، جبهة جنوب لبنان في الثامن من تشرين الأوّل 2023 في ما سُمّي “حرب إسناد غزّة”. يوجد ثمن لا مفرّ من دفعه، لا لشيء إلّا لأنّ “الحزب” لم ينتصر في تلك الحرب، بل لحقت به هزيمة ساحقة ماحقة لا يغطّيها التمسّك بشعاراتٍ من ماضٍ مضى.
يفرض هذا الواقع التعاطي مع موضوع المفاوضات من زاوية مختلفة، زاوية تحقيق نتائج ملموسة. يشمل ذلك الاعتراف بوجود ثمن سيتوجّب على لبنان دفعه بعدما أمسكت إيران بالبلد ووضعت يدها على قرار الحرب والسلم فيه وأخذته إلى “حرب إسناد غزّة”. هذا يجعل شكل المفاوضات، في حال حصولها، قضيّة ثانويّة، في حين تبقى القضيّة الرئيسة قضيّة استعادة الأرض ومنع قيام حلفٍ غير مقدّس بين سلاحٍ ميليشيويّ واستمرار الاحتلال الإسرائيليّ.