
تعيش إسرائيل اليوم مرحلة مركبة تجمع بين الانقسام الداخلي والقلق الخارجي، بعد أن تآكلت صورتها كقوة يهودية مقدسة لا تُقهر وتراجعت مكانتها في الغرب الذي لطالما دعمها كمشروع استعماري. فبينما تسعى تل أبيب لكسر عزلتها عبر مسار التطبيع مع السعودية ونظام الأمر الواقع في سوريا ودول أخرى مثل كازخستان، تتعمق أزماتها الداخلية بصورة غير مسبوقة، لتكشف هشاشتها البنيوية وعجزها عن إدارة واقع يتسم بالتناقضات المستمرة بين التوسع والهيمنة من جهة، والفشل في السيطرة على الداخل من جهة أخرى.
أيام قليلة تفصلنا عن تحديد ملامح خارطة الطريق التي تريد الإدارة الأميركية ترسيمها في قطاع غزة بشكل خاص، وكامل فلسطين والشرق بشكل عام ، فيما يمكن أن نطلق عليه خارطة "الوصاية المعاصرة"، والذي يمكن ان يصبح انتدابا اذا تم إقراره في مجلس الامن وفق المسودة الأمريكية المتداولة، والتي تبحث عن تجميد مشهد القضية الوطنية التحررية الفلسطينية، كواجهة متقدمة لمشروع أوسع، عبر حالة السيطرة بقرار دولي، كبديل عن سيادة القانون الدولي، ليصبح السؤال المباشر والبسيط، هل ستنجح حالة هيمنة الحراك الأميركي في ظل التحولات الكبرى التي تدور على مسرح السياسة الدولية، وكيف نستطيع نحن مواجهة ذلك؟
كي لا تتحول فلسطين من مشروع للتحرر إلى وظيفة داخل معادلات الآخرين؟
ان المفاوضات الأمريكية مع الرياض والتي أثارت قلق المؤسسة الأمنية الإسرائيلية التي ترى فيها تهديدا لتفوقها النوعي المفترض، تُظهر أن المنطقة تشهد إعادة ترتيب التحالفات والرهانات الاستراتيجية، وأن الولايات المتحدة تعمل على ابتكار حزمة شاملة تربط التطبيع مع إدارة الملف النووي السعودي وضمان مصالح إسرائيل وانقاذها، في الوقت نفسه الذي لا تخضع فيه الحسابات الإقليمية بالكامل للسيطرة الإسرائيلية رغم محددات العلاقات الإستراتيجية غير المنتهية بينهما.
في الداخل، يزداد الشرخ حول مستقبل غزة وصيغة “القوة الدولية المفترضة برعاية أمريكية - قوات الانفاذ وليست قوات حفظ للسلام” ضمن خطة ترمب المفخخة والتي ما كان يتوجب الترحيب بها سريعاً من اي طرف فلسطيني، في ظل إدراك متزايد لعجز تل أبيب عن فرض سيطرتها الكاملة على القطاع بعد تقسيمه بالخطوط الملونة. أما في الضفة الغربية، فقد تحولت المتغيرات الاستيطانية المتسارعة وما لذلك من أثر ديمغرافي، كما واعتداءات المستوطنين إلى سياسة رسمية تتبناها الحكومة وتحميها المؤسسة العسكرية بهدف قتل ما تبقى من حديث حول حل الدولتين والتي تسعى الولايات المتحدة القفز عنه ايضا، ما يعكس انزلاق المجتمع الإسرائيلي نحو منطق الميليشيا والتطرف اليميني الديني، وتآكل مفهوم الدولة الحديثة التي كانوا يروجون لها كديمقراطية وحيدة بالشرق الأوسط لصالح حكم أيديولوجي استيطاني مغلق.
على الحدود الشمالية، يواصل حزب الله اختبار قدرة إسرائيل على التحمل في حرب استنزاف طويلة المدى بعد ترميم جزء من قدراته كما أعُلن والمواقف الرسمية اللبنانية للأفكار الأمريكية، بينما تتفاقم الخلافات حول قانون التجنيد وميزانية جيش الاحتلال وتداعيات الانقلاب القضائي الذي قاعده نتنياهو ما قبل عدوان الإبادة. كل ذلك يجعل إسرائيل أمام سؤال وجودي داخلي وهو، هل هي دولة ديمقراطية مدنية كما تدعي، أم كيان ثيوقراطي يهودي يعيش بعقلية الخوف والعزلة؟
ولا يقتصر القلق الإسرائيلي على الداخل فيها، بل يمتد إلى الخارج. فقد كشف تقرير معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي عن حجم المخاوف من مرحلة ما بعد ترمب، مع تراجع التأييد الشعبي لإسرائيل في الولايات المتحدة وتصاعد الأصوات داخل الكونغرس التي تنتقد الدعم العسكري الأمريكي لها ولمشاركة جرائمها في غزة.
هذه التحولات تجسدت مؤخرا في صعود الجناح التقدمي اليساري داخل الحزب الديمقراطي بقيادات شابة مثل زهـران ممداني وغيره، الذي يشكل امتداد لمجموعة اليساري بيرني ساندرز وغيره، والذي أصبح اليوم وبعد فوزه برئاسة بلدية نيويورك حتى بدعم نسبة عالية من الجالية اليهودية رمزاً لتحول الخطاب السياسي الأمريكي تجاه العدالة الاجتماعية والقضية الفلسطينية في إطار مفاهيم قضايا الحقوق المدنية والديمقراطية. يُظهر فوز ممداني أن إدارة ترمب ليست أبدية، وأن مزيجاً من القوى داخل المجتمع الأمريكي ومنهم المؤيدون للفلسطينيين، قد يتشكل في ائتلاف يؤدي إلى إدارة أمريكية لم تعهدها إسرائيل من قبل، وهو ما يثير قلق الحكومة الإسرائيلية بشأن استقرار التحالف الأمريكي التقليدي وفق محدداته الكلاسيكية بالحزبين الرئيسيين، ويجعل أي استثمار لمكتسبات ترمب في مصلحة تل أبيب أمراً محدودا زمنياً ومعقدا سياسياً.
اليوم، ما لم يعد ممكنا هو تجاهل هذه التحولات المتمثلة في الأزمة البنيوية الداخلية في إسرائيل والمتغيرات العميقة داخل المجتمع الأمريكي تجعل الوضع مختلفا عن أي وقت مضى، الى جانب متغيرات الرأي العام الشعبي العالمي الذي صنعته دماء غزة وصمودها الأسطوري رغم التدمير أمام الإبادة الجماعية والذي أثمر على فرض متغيرات على عدد من مواقف الحكومات الغربية واعترافها بالدولة الفلسطينية. ان التاريخ لا يقف عند مكان محدد، والأمر الآن يتوقف على كيفية استثمار هذه اللحظة لصالح المشروع الوطني التحرري الفلسطيني. فأي محاولة للثبات على مواقف قديمة أو لمقاومة مسار هذا التغير ستكون صعبة التنفيذ وربما غير مجدية.
في ظل هذه البيئة، تحاول حكومة الاحتلال استثمار ما تبقى من ولاية ترمب لإنقاذها ولتثبيت وقائع جديدة تشمل توسع كولنيالي غير مسبوق لتشكيل “كيان فلسطيني منزوع السلاح بمعازل جغرافية غير سيادية” وفق خطوط صفقة القرن السابقة والتي سيقرها ترمب من جديد، وبناء تحالف هجومي مشترك ضد إيران، ودمج إسرائيل في تحالفات استخباراتية وتقنية غربية لضمان التفوق المستقبلي. ومع ذلك، فإن هذه المحاولات تكشف هشاشة إسرائيل الداخلية والعزلة الأخلاقية والدبلوماسية التي تواجهها دولياً، فيما تُظهر المؤشرات الأمريكية والإقليمية أن موازين القوى بدأت تتحرك لصالح تحولات إقليمية جديدة لا يمكن لإسرائيل السيطرة عليها بالكامل او حتى اعاقتها مع تمدد مصالح قوى اخرى.
إن القلق من مرحلة ما بعد ترمب يعكس في جوهره قلقا من مرحلة ما بعد أمريكا، ومن عالم يتشكل على أنقاض الأحادية القطبية الأمريكية، حيث يتقدم وعي الشعوب تجاه القضايا الانسانية وحقوق المستضعفين بالأرض وبعدالة القضية الفلسطينية، وتزداد الضغوط الدولية على إسرائيل لمحاسبتها أمام القانون الدولي، رغم محاولات بعض العرب والعجم اعاقتها للأسف في أروقة القضاء الدولي بتوجيهات أمريكية.
في هذه اللحظة التاريخية، لا يكفي مجرد الرصد ومراقبة المتغيرات او الانتظار، علينا نحن الفلسطينيين ومَن أمكَن معنا من العرب استثمار الفرصة عبر فعل سياسي واعي وجريء سندا لعدم ثبات سياسات فرض الأمر الواقع، بتجديد أدوات فكر المقاومة العقلانية السياسية والشعبية، وتوحيد الإرادة و الرؤية الوطنية الديمقراطية، وبناء خطاب سياسي ودبلوماسي وأخلاقي متكامل مقاوم، يعيد تعريف الصراع بوصفه قضية تحرر وعدالة إنسانية، ويحول نافذة القلق الإسرائيلي إلى فرصة للفعل الواعي والبناء الاستراتيجي الذي قد نكون افتقدناه خلال العقدين او الثلاث الماضية في اطار سياسة ردود الافعال والانتظار من جانب والتردد وتغييب قرارنا المستقل من بعض الأطراف بجانب اخر منه وتداعياته على التفرد بالقرار وما رافقه من اخطاء وتشظيات وغياب الديمقراطية الانتخابية .
فبين مأزق الداخل الإسرائيلي وقلق الخارج الأمريكي وازمات الإدارة الامريكية في بؤر التوتر العالمية التي تفتعلها في وسط شرق أوروبا والجنوب العالمي من أمريكيا اللاتينية وأفريقيا وبحر الصين، وتَطور متغيرات السياسات الدولية، وتصاعد انتفاضة الشعوب مع فلسطين وضد سياسات الاستغلال والاضطهاد بحق شعوب الأرض والفئات المهمشة عليها، تَفتح اللحظة الحالية نافذة نادرة يجب ألا تُغلق، نافذة للفعل الفلسطيني والعربي الممكن نحو مرحلة ما بعد الانتظار أو التي تجوز باعتقادي تسميتها بما بعد الاستعمار الحديث، مرحلة البناء الواعي الديمقراطي للمستقبل بقرار مستقل يحمي الرؤية التاريخية لشعبنا والحقوق الغير قابلة للتصرف ومسار الديمقراطية والمشاركة الشعبية بالوطن العربي.