
كل تطورٍ إيجابي يحدث لمصلحة الفلسطينيين يظل هدفاً لجهدٍ إسرائيلي مضاد لتقويضه. وبحكم التفوق العسكري المعزز دائماً بتحالفاتٍ قويةٍ مع أمريكا والعديد من دول العالم كانت إسرائيل تعيد الأمور إلى نقطة الصفر وأحياناً إن لم يكن غالباً إلى ما دونها.
مخاض الدولة الفلسطينية بدأ منذ اتخذ الفلسطينيون قراراهم عبر مؤسساتهم الوطنية، بأن تكون الدولة هدفهم المركزي، ورغم كل الحروب المكلفة التي خاضوها على مدى قرنٍ من الزمان، إلا أن عزيمتهم لإقامة دولتهم لم تفتر، وكان التقدم السياسي والتحالفي بشأنها يحدث ولكن ببطءٍ شديد، صوّره كثيرون بأن نجاحه ضرب من ضروب المستحيل.
وحتى المبادرات السياسية التي غالباً ما انقسم الفلسطينيون عليها بين من يراها ضروريةً في المسيرة الشاقة نحو الهدف ومن يراها تنازلاً مجانياً يستحق الإدانة والتخوين. حتى هذه المبادرات كانت تحقق نتيجة هامة، وهي بقاء مسألة الدولة على قيد الحياة حتى أصبحت وبعد جهدٍ جهيد وزمنٍ طويل محل إجماعٍ دولي، لم يتنظر قيامها على الأرض حتى يعترف بها، بل اعترف مسبقاً لجعل ولادتها مسألة وقتٍ وجهدٍ ليس إلا.
الثمن كان باهظاً حتى وصف وضع الدولة في الأدبيات الفلسطينية "كالقبض على الجمر" ومنذ بداية العمل الوطني التحرري قبل منتصف القرن الماضي أفشل الفلسطينيون مشاريع تصفيةٍ عديدةٍ وظلوا قابضين على جمر الدولة كعنوانٍ ومضمونٍ سياسي لكفاحهم الوطني بشتى أشكاله المشروعة، دون التنازل عن حقوقهم الأخرى التي كفلتها مواثيق وقرارات الأمم المتحدة وأهمها قضية اللاجئين.
بعد حرب السنتين التي جسّدت امتداداً لحروب القرن على الفلسطينيين حيثما وجدوا على أرض الوطن وفي الشتات، دخل مخاض الدولة مرحلةً لا تخلو من صعوبةٍ بالغة كما لا تخلو من أمل، مكمن الصعوبة تنتجه حكومةٌ عنصريةٌ متطرفةٌ في إسرائيل، لم تكتفي بقتل وجرح ربع مليون فلسطيني في غزة والضفة، كما لم تكتفي بتدمير غزة عن بكرة أبيها، وتتوعد الضفة بحصارٍ خانقٍ وتصفياتٍ جسديةٍ فرديةٍ وجماعية، وتهجيرٍ بمختلف الأنواع، داخليٍ وحيثما أمكن إلى أي مكانٍ على وجه الأرض. وضمٍ لأراضٍ تحول الوطن إلى مجرد جيوبٍ متناثرةٍ فوق جغرافيةٍ ضيّقة، في سعيٍ جهنمي لجعل قيام الدولة ضرباً من ضروب المستحيل.
لقد فعلت إسرائيل كل ذلك، وما تزال تواصل فعلها ولكن هذه المرة في ظل تطوراتٍ مختلفةٍ لا نغالي لو قلنا إنها في مصلحة الفلسطينيين ودعونا هنا نضع النقاط على الحروف..
منذ بداية الحرب على غزة، وفي سياق تواصلها دون انقطاع وامتداداتها على الضفة والقدس، قدّم الشعب الفلسطيني صورةً متميزةً بل ومتفردة في الصمود على الأرض والتمسك بالأهداف الوطنية، مقاوماً قدر استطاعته وهذا لم يكن بالأمر الجديد على الشعب الفلسطيني الذي لم يغادر ساحة النضال والعطاء منذ بداية قضيته، وإلى جانب الصمود الفلسطيني في غزة والضفة والقدس، يسجل للأشقاء المصريين والأردنيين صلابة موقفهم المبدأي والفعّال الذي منع التهجير، وكان ذلك بمثابة رسالةٍ للعالم كله وتخصيصاً للحليف الرئيس لإسرائيل تقول بصريح العبارة أن التهجير لن يمر، وبذات القدر من الصلابة تبلور موقفٌ جديٌ وفعّال من جانب الدول العربية ومعها العالم كله يعتبر الضم جزئياً كان أم كلياً خطاً أحمر ما لبثت أن التحقت به أمريكا وإن بعد حين.
وفي هذا السياق الإيجابي جاءت المبادرة السعودية الفرنسية التي حشدت العالم كله وراء اعترافٍ ثمينٍ بقيام الدولة الفلسطينية، وكانت المملكة وما تزال تربط أي تطبيعٍ مع إسرائيل بقيام الدولة الفلسطينية من خلال مسارٍ موثوقٍ لا رجعة عنه لإنجازها.
والآن ولأول مرةٍ يتضمن مشروع قرارٍ لمجلس الأمن تقدمه أمريكا ويؤيده العرب، والمسلمون، يشير إلى دولةٍ فلسطينية، ينبغي أن تقام في إطار سلامٍ شاملٍ في المنطقة، وللحقيقة فإننا وحتى حين يصدر قرار مجلس الأمن بصيغته الأمريكية، ينبغي أن لا نعتبر القرار وكأنه تحقيقٌ ميكانيكيٌ للدولة فالصعوبات ستتواصل ومحاولات الانقضاض على المسار المقترح ستتضاعف، وهنا سينهض التحدي الأكبر ذلك أن قرار مجلس الامن يحتاج إلى جهدٍ كبيرٍ ومنسق لنقله من النص إلى التطبيق على الأرض، وإذا ما استرجعنا من الذاكرة القريبة تجليات التكامل العربي الإسلامي الدولي الذي نشأ في سياق وقف الحرب على غزة، فإن الصعوبة مهما بلغت يمكن أن تذلل والأمل مهما بدا بعيداً يمكن أن يتحقق.