
تدخل المنطقة مرحلة سياسية دقيقة، إذ تتقاطع المؤشرات الإقليمية والدولية حول ما يمكن اعتباره “الأسبوع الحاسم” في رسم مستقبل غزة، مع تحركات دبلوماسية مكثفة تتصدرها زيارة ولي العهد السعودي إلى واشنطن الأسبوع المقبل، والتي قد تحدد ملامح التسوية المقبلة أو تؤجلها مرة أخرى في سياق الرؤية الأمريكية للمنطقة، خاصة مع نجاح الإدارة الامريكية في احتواء نظام الأمر الواقع في سوريا اليوم.
على صعيد مجلس الأمن الدولي، يواجه مشروع القرار الأميركي الخاص بغزة تعثراً رغم محاولات واشنطن لتعديله لإرضاء أطراف متعددة. المعطيات تشير إلى أن الإدارة الأميركية أجرت تعديلات لتفادي اعتراض روسي–صيني، ولإقناع الأطراف العربية المتحفظة، وعلى رأسها السعودية ومصر والأردن، دون إعلان رسمي بعد.
فالتحفظ العربي لا يقتصر على بنود المسودة، بل على جوهر الرؤية الأميركية التي تتجاهل الدور الفلسطيني الشرعي، وتطرح خطة “الإصلاح التدريجي” للسلطة لتتولى إدارة غزة لاحقاً. السعودية ودول عربية أخرى تؤكد ضرورة دور مباشر للسلطة الوطنية منذ البداية، وليس بعد مرحلة انتقالية غامضة كما ترغب إسرائيل.
أما إسرائيل، فترفض الاعتراف بالشرعية الفلسطينية في غزة، وتسوق فكرة “الإدارة الأمنية المؤقتة” بمشاركة محدودة، من دون منح السلطة الوطنية صلاحيات حقيقية، ما يمثل وصفة لإطالة أمد الفوضى وإعادة إنتاج الاحتلال.
واشنطن، رغم حديثها عن “إصلاح السلطة” و“خلق سلطة متجددة”، كنت قد أشرت لمفهومها في مقال سابق، تتحرك ضمن الرؤية الإسرائيلية نفسها، متجاوزة قرارات الشرعية الدولية ومتجاهلة مبدأ حل الدولتين وفق القرارات الأممية او كما نفهمه نحن وقبل ذلك مبدأ حق تقرير المصير، بما يخدم مصالحها في السيطرة على موارد المنطقة وخطوطها البحرية والتجارية واستمرار تفرد القوة الإسرائيلي بحق كل دول الجوار.
حيث قد كشف تقرير "رويترز" عن تحول خطير في خطة ترامب لما بعد وقف إطلاق النار، بما يعرف بـ“الخط الأصفر”، كنقطة انسحاب جزئي دائم داخل القطاع، ما يعني تقسيم غزة إلى منطقتين، إحداهما تحت السيطرة الإسرائيلية، وأخرى لإدارة حماس أو كيان فلسطيني محدود الصلاحيات ضمن إطار “إدارة ذاتية محاصرة”.
أما تقرير "بولتيكو" فقد عكس المخاوف الأميركية من صعوبة تنفيذ الخطة، خاصة إنشاء “قوة الإنفاذ الدولية” وإدارة مؤسسات “مجلس السلام”، بالإضافة إلى رفض حماس نزع سلاحها، ومعارضة إسرائيل لدور السلطة الوطنية الفلسطينية، ومحدودية مشاركة الدول العربية والمانحين. وهكذا تبدو الخطة فاقدة للأركان الأساسية، المُنفذ والمُمول والشرعية السياسية، بينما تُعرض الخطة كمرحلة انتقالية مفتوحة بلا جدول زمني، وهو ما سيتضح أكثر خلال جولة المندوب الامريكي ويتكوف الأيام القادمة واللقاءات التي سيجريها ومن ضمنها مع ممثل حماس خليل الحية وفق ما تم الاعلان عنه.
تسريب تفاصيل الخطة جاء لقياس الموقف العربي، خصوصاً من الرياض وعمان والقاهرة، وكان الرد العربي حاسماً، “غزة واحدة، وهي جزء من الأرض الفلسطينية المحتلة”. وهو ما شكل باعتقادي موقف متقدم وضاغط يتوجب الحفاظ والبناء عليه دون خوف او تردد.
في الوقت نفسه، قدمت روسيا مشروع قرار يعكس سعيها لإعادة التوازن تجاه غزة، حيث طالبت بالالتزام بالقانون الدولي، ووقف أي تغييرات ديمغرافية أو إقليمية، والحفاظ على التواصل بين غزة والضفة تحت ولاية السلطة الوطنية الفلسطينية، مع إشراف الأمم المتحدة على المساعدات الإنسانية، واحترام مبدأ حل الدولتين بما يقضي الى اقامة الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة وحق تقرير المصير. هذا التدخل أوقف مؤقتاً طرح مسودة القرار والتصويت على المشروع الأميركي، وأجبر واشنطن على إعادة صياغة مسودتها لتفادي صدام مباشر مع موسكو ولتوفير مساحة للتفاهم العربي.
استراتيجياً، يبدو أن ما يجري هو محاولة أميركية–إسرائيلية لإعادة هندسة وتعريف المشهد الفلسطيني عبر فصل غزة عن المشروع الوطني، وتحويلها إلى كيان بلا سيادة، مقابل إدارة ذاتية بالمعازل الجغرافية المحدودة في الضفة دون القدس، وفق رؤية “صفقة القرن”. هذه الصيغة تعني عملياً تقويض فكرة الدولة الفلسطينية المستقلة وترسيخ نموذج “السلام الاقتصادي الأمني” كبديل عن الحل السياسي، خاصة مع استمرار التوسع الاستيطاني وسياسات فرض السيادة الإسرائيلية.
اليوم، المنطقة أمام لحظة مفصلية، إما أن تمارس واشنطن دورها كقوة ضغط لإنهاء الاحتلال وتكريس الحل السياسي القائم على الشرعية الدولية وهو احتمال غير قائم وفق قناعتي، أو أن تواصل سياسة إدارة الأزمة، ما يؤدي لمزيد من التفكك والانفجار الإقليمي وهو الأمر الأكثر احتمالا.
التنافس بين المشروعين الأميركي والروسي يُظهر أن الإرادة السياسية العربية قادرة على فرض تعديلات مؤثرة على أي مشروع دولي يخص غزة خاصة مع تعاظم التضامن الدولي غير المسبوق ومسلسل الاعترافات الاخيرة بالدولة الفلسطينية بعد المبادرة السعودية الفرنسية، ومواقف ماكرون بشأن موضوع دستور الدولة، إذا توفرت الإرادة السياسية اولاُ ووحدة الموقف والتنسيق بين العواصم العربية والأصدقاء الدوليين خاصة مع تعاظم التضامن الدولي الشعبي وتوالي الاعترافات بالدولة. هذا مؤشر عملي على أن الخيارات العربية ليست هامشية، بل يمكن أن تكون عنصراً حاسماً في مستقبل القطاع وكل فلسطين، شريطة الالتزام بالخطوط الوطنية والشرعية الدولية ووجود موقف فلسطيني واحد يتعلق بوحدة الأرض والشعب والقضية والبناء الديمقراطي، بما يتمثل في ضرورة استنهاض منظمة التحرير كمرجعية سياسية وتمثيلية وبما لها من مكانة دولية، على أن يتم الاستعجال في أعلانا الدولة تحت الاحتلال واقرار الدستور الفلسطيني وأجراء الانتخابات لبرلمان دولة فلسطين والمجلس الوطني الفلسطيني والصمود في وجه الضغوطات الأمريكية.